كنتُ طفلاً كذوباً في حالات الخوف من عقاب والديّ، ولطالما كانت نجاتي في الكذب الذي أدعوه، تجمُّلاً، تأليف القصص. وليس عسيراً على طفلٍ تفتَّح ذهنه مبكراً على القصَّة بجميع أنواعها أن يستحيلَ قاصّاً مُقنِعاً على نحوٍ لا بأس به. كنت شغوفاً بالقصَّة في حكايات جدَّتي، والقصص القرآني، وسلاسل قصص الأطفال، والمسلسلات الكرتونية التي تُشير إلى أهمية القصَّة: «من كلِّ بلاد الدُّنيا، من كلِّ بقاع الأرض، قصصٌ شتَّى، تُروى حتَّى، نعرف أحوال الإنسان، والكلُّ هنا جيران». وهذه الكلمات من المقدمة الغنائية للمسلسل الكرتوني الأثير لأبناء جيلي «حكايات عالمية» في منتصف ثمانينات القرن الماضي.  كان ممنوعاً عليَّ في طفولتي الخروج إلى الشَّارع، حتى دكَّان البقالة القريب من بيتنا؛ كان الذّهاب إليه أمنية لم أحقِّقها بموافقة والديّ إلا في زمن المراهقة، وحجَّة أهلي دائماً هي أن في البيت حوشاً كبيراً بحديقة داخلية يمكنني اللهو فيها قدر ما شئت.
 تسلَّلتُ من البيت ذات ظهيرة، أثناء قيلولة الأهل إلى دكان البقالة، في آخر الشَّارع، كما لو أنني أحققُ حلم حياتي بالخروج بمفردي كما يفعل أقراني. ولكن لسوء الحظ شاهدتُ أمام الدُّكان أربعة أو خمسة من الأولاد المتنمرين الذين نهابهم في المدرسة، كُنَّا نُسميهم العصابة، أولئك الذين يكبروننا بالسِّن بسبب رسوبهم المتكرِّر، والذين تملأ وجوههم النَّدبات والجروح. كانوا يجلسون على صناديق المشروبات الغازية يدخِّنون السجائر ويشاكسون المارَّة لفظاً أو فعلاً. وكلُّ واحدٍ فيهم يحملُ سلاحاً يعبثُ به؛ هرَّاوة ومطواة ونبِّيطة. في المدرسة هناك من يُلجمهم من المدرسين، ولكن في الشَّارع «لا ملجا ولا منجا!». التفتُّ ورائي أحسبُ المسافة بيني وبين البيت، وبيني وبين العصابة، فآثرت الوقوف، وقد كان أوان الهرب الذي أُجيده قد فات بسبب التفاتهم إليّ. افتعلتُ حُزناً مريراً في ملامح وجهي بمجرد اقترابهم مني يحملون أدوات العِراك، راح كبيرهم الضَّخم ينفخُ دخان سيجارته في وجهي، وأنا بقصر قامتي وجسدي الضئيل لا حول لي ولا قوة إلا بتأليف قصة فورية. وقبل أن ينطق الفتى بشتيمة لفظتُ سؤالي: «ما شفتوا ولد صغيِّر ضايع؟». التفتَ إلى أصحابِه مستغرباً. استطردتُ أنسج قصتي حول خالد، الولد اليتيم الذي تبنَّته عائلتي بعدما عثرنا عليه في أحد القطارات في القاهرة (التي لم أسافر لها قط حينذاك)، وقد أوصتني والدتي بالاهتمام بالولد الصغير أثناء قيلولة الجميع، ولكن الصبي خرج من البيت وراء نداءات صاحب عربة الآيس كريم ولم يعد. وأنا بين خوفين: خوف على أخي الوهمي، وخوف من عقاب والديّ. رحتُ أُحدِّد لهم أوصافه، طوله ولونه ملابسه.   لم تستغرق الحكاية بعض دقائق حتى صرتُ أسير في شوارع المنطقة، ومن ورائي تسيرُ العصابة المسلَّحة، يتلفَّت أفرادها ويصيحون: «خاااالد.. خااالد».  وصلتُ إلى البيت في حين كانوا ينتظرون مني خبراً وراء السور. وقفتُ وراء الباب لدقيقة قبل خروجي أبشرهم: «الحمد لله.. خالد رجع».
  لعلِّي آمنتُ بسحر القصص أكثر، من دون وعي، وأنا أشاهد فعل قصتي بترويض وحوش شارعنا القديم، وقتَ شاهدتُ العطف في وجوههم على غير عادة. وصرتُ أكتب القصص اليوم على سبيل الإنقاذ؛ إنقاذ نفسي من هذا العالم الكئيب، ورُبَّما إنقاذ الآخرين بمنحهم فُرَصاً لتجربة حيواتٍ أُخرى.