في فبراير 1963، انتحرت الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث بعد أن أقحمت رأسها في الفرن، لتموت متسممة بغاز أول أكسيد الكربون، وكانت قد وضعت قبل ذلك مناشف مبللة أسفل باب المطبخ، لتمنع تسرّب الغاز إلى غرف أطفالها. أما الروائية فرجينيا وولف فقد ارتدت معطفاً مليئاً بالحجارة وألقت بنفسها في النهر لتموت غرقاً، تاركة خلفها رسالة إلى زوجها تشرح فيها سبب انتحارها. مقدمة سوداوية كئيبة، أليس كذلك؟ لكنها تمهيد ضروري لما سيأتي: لاحظوا أن القصص السابقة تتضمن حالات انتحار خُطِّط لها بعناية تامة، ويبدو أن مواعيدها حُدّدت بدقة، ولم يتخذ أبطالها هذه الخطوة إلا بعد وصولهم إلى حافة اليأس أو الجنون أو الاكتئاب، فهي إذن وعلى الرغم من أنها فواجع، إلا أنها تبدو منطقية أو متوقعة بالنظر إلى سيرة المنتحر، وعذاباته وتاريخه مع الأمراض النفسية. لكن، كيف سنفسّر حادثة انتحار رجل يخرج ضاحكاً من السوبر ماركت ويُقدم فجأة على إنهاء حياته؟ أو امرأة تدهن شريحة الخبز بالزبدة وتقرر من دون سابق إنذار أن تقطع معصميها؟ أو طفل يرمي ألعابه الإلكترونية ويمضي بثبات ليقفز من شرفة الطابق العاشر؟!

وباء غريب

فيلم Bird Box من أحدث إنتاجات نتفليكس، تدور قصته حول وباء غريب يصيب العالم، إذ يدفع الناس إلى الانتحار فجأة بأي وسيلةٍ كانت، وينتقل بما يشبه العدوى، فإذا نظر أحدهم إلى الشخص المصاب به، تسيطر عليه قوة خفية تسلب إرادته، ليصبح كالمنوّم مغناطيسياً وينتحر فوراً. تسعى بطلة الفيلم مالوري (ساندرا بولوك) إلى النجاة مع طفلها الذي سيولد في عالمٍ يشارف على النهاية، وتكافح مع مجموعة من الناجين للعيش وسط الكارثة، فيغلقون الأبواب والنوافذ والستائر، ويتنقّلون معصوبي الأعين تجنباً للإصابة بالوباء. أحببت أن الفيلم لا يفسّر سبب الوباء الغامض، ولا يسوق تشخيصاً طبياً جازماً للحالة، بل يترك كل الاحتمالات مفتوحة للمشاهد، وهو ما يذكّرني برواية (العمى) للنوبليّ الراحل جوزيه ساراماغو، حيث يصاب السكّان في بلدٍ ما بالعمى واحداً تلو الآخر من دون وجود تفسير للحالة. في فيلم Bird Box يقول أحد المجانين عن الوباء: «سينظف العالم.. على الجميع أن ينظروا»، وحين ينزع أحدهم العصابة عن عينيه، يحدّق بتركيز في شيء لا ندري ما هو، ويمضي بثباتٍ إلى حتفه. وهذا يعيدني إلى رواية العمى، حيث وضع ساراماغو في مستهلّها اقتباساً من كتاب المواعظ: «إذا كنت تستطيع أن ترى، فانظر.. إذا كنت تستطيع أن تنظر، فراقب».

فكرة مشوقة

لكن الفكرة المشوقة لا تصنع وحدها فيلماً رائعاً، فبرأيي أن فيلم Bird Box عبارة عن مادة خام جيدة أُخرجت بصورة سيئة. لا يوجد بناء متقن للشخصيات، فلم أشعر بارتباط حقيقي بهم ولم أتعاطف معهم، وكلما حاولوا أن يثيروا شفقتي ظهروا أسوأ. أداء الممثلين الثانويين غير مقنع، وبعضهم مجرد حشو لا يؤثر في الحبكة من قريب أو بعيد. الحوارات عادية وسطحية، على الرغم من أننا على شفير نهاية العالم. وهناك قفزات زمنية لا مبرر لها، أو أنها تحدث بسرعة كبيرة تُخرجنا من أجواء الترقّب وتُفقدنا صفة الحذر.
ختاماً فإن تقييمي الشخصي لـ Bird Box هو 6/10، وبعبارة أخرى: لا بأس به. وأعانني الله على مواجهة فلول المتعصّبين للفيلم. استمتعت في بعض المشاهد، وتوتّرت في بعضها، لكن الفيلم في المجمل كان هشاً بما يكفي لأنساه سريعاً، بالإضافة إلى أن النهاية لم تعجبني. فيلم Bird Box أشبه بوجبة أندومي سريعة التحضير، غنية بالنكهة، لكن القيمة الغذائية شبه معدومة.