في العقود الأولى من القرن العشرين كان المتبع في الخطاب الثقافي وصف منطقتنا بأنها الشرق: (كلنا في الهم شرق)، كما في قصيدة أحمد شوقي عن دمشق، وحافظ إبراهيم يخاطب شوقي يوم تتويجه أميراً للشعراء بقوله:
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً ... وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وكذلك ظل التعبير الشعبي يستخدم كلمة: نحن كشرقيين، في كل مرة يجري فيها وصف عاداتنا وأخلاق سلوكنا حين الإحالة على الذات. ولم تحل كلمة العربي محل كلمة الشرقي في الخطاب العام إلا مع منتصف القرن، عقب تحولات تاريخية تعاقبت منذ خريطة سايكس بيكو وتقاسم بلدان العرب بين المستعمرين واحتلال فلسطين وتمزيق العالم العربي جغرافياً، وهذا يشير إلى تعويض الانكسار المكاني بتعزيز لحمة الهوية وتحفيز المرجعية الذاتية لشعوب المنطقة بأنها وإن تمزقت جغرافياً فهي أمة واحدة لها قيم معنوية وتاريخية وتشترك في هم واحد لم يعد شرقياً بما أن الشرق وصف جغرافي تمزق جسده، ولكنه معنى عميق يواجه تحدي الانكسار والاستعمار بوجهه الجديد الذي يتحكم في خرائط الأرض ويهدي أرض العرب لغير العرب من شذاذ الأرض، وهذه لحظة تتحفز فيها الهوية لكي تعود لجذورها الصلبة، ومن هنا ظهرت التوجهات العروبية في الخطاب وفي التشكلات، وعلى خطاب رفض الاستعمار والإمبريالية، وظهرت النزعات للوحدة، وظلت المشاعر موحدة ومتصلة برباط وثيق، على الرغم من إخفاق جهود التوحيد، وسقوط فكرة الجمهورية العربية المتحدة، لكن الوحدة ليست قيمة جغرافية فحسب، ولكنها قيمة في الخطاب وفي المكونات الجوهرية لنظام الشخصية العربية، وتتعزز مع كل أزمة تأتي، وأولاها قضية فلسطين التي هي في موقع معنوي في تكوين أي رجل عربي وامرأة عربية ومع أطفال العرب منذ بدء تفتحهم على الحياة، وفلسطين هي أشد المكونات العربية تأزماً، وتبعاً لهذا هي أهم المكونات معنويا ووجدانياً، وفي استطلاع أشرفت عليه مؤسسة الفكر العربي جاءت النسب بأعلى أرقامها في أجوبة الشباب العربي عن فلسطين بأنها تمثل لهم (قضية شخصية أولية) وليست مجرد سياسة خارجية (الاستطلاع منشور على موقع المؤسسة). ويضاف لهذه التحولات ظهور دور منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي، مع بزوغ جغرافية دول المغرب العربي وبلغت ذروتها مع ثورة التحرير الجزائرية التي صنعت مثالاً حياً لمفهوم الاستقلال، وهذه أحداث كبرى لم نعد معها مجرد شرق جغرافي لأن أزمات الهوية استدعت معناها الجوهري لتواجه تأزماتها، وصارت كلمة العربي علامة على حال ثقافية ومعنوية تشير إلى مرجعية بنيوية.