إنها الأنشودة والصوت ودندنة اللحن والحب والوطن والقدس والشوق والغربة والهوى وزهر النرجس وأسامينا والليل والنجوم.
إنها السهل الممتنع والصوت الخارق والإطلالة الفريدة والشال المشلوح على الكتفين الذي حيك بإبرةٍ ناعمة وخيط وبنبض مصممي أزياء وبقماشاتٍ فاخرة وبتطريزٍ وألوان. إنها إطلالة سفيرة النجوم فيروز عبر العقود بأزياءٍ نسجت بكثير من الدقةِ والأناقة والبساطة والرقيّ. ووقعتها ذات حين أنامل المصممة بابو لحود. فلنكتشفها معاً:

حين أطلّت فيروز الصبية في أول فيلم غنائي عربي «بياع الخواتم» عام 1964 وغنت «يا بياع الخواتم بالموسم اللي جايي جبلي معك شي خاتم» بدت أنيقة، ناعمة، بفستانٍ أزرق بسيط، وأكمامٍ من الموسلين، زاداها وقاراً. وكانت تقف وراء العدسة، في الكواليس، صديقة عمرها، الخياطة الموهوبة، بديعة الأعور التي خاطت بكثير من الحب والاحتراف ملابس السيدة فيروز التي كان يصممها كبار المصممين وتقوم هي بتنفيذها.
بابو لحود، مصممة الأزياء، كانت بين الكبار الذين رسموا أجمل الفساتين التي أطلت بها السيدة فيروز. بابو كانت طفلة، في الرابعة عشرة من عمرها، يوم أمسكت بقلم وورقة وراحت ترسم أزياء وتوزعها هدايا على زميلاتها في الصف. وشغفها هذا جعلها تنتقل مع شقيقها روميو لحود إلى بعلبك وترى رسوماتها وتصاميمها النور.

في الخمسينات والستينات

أوّل لقاء بين فيروز وبابو كان في «بترا». قبلها، كانت ترى عبر التلفاز تسجيلات لفيروز في خمسينات وستينات القرن الماضي وتقول: تُرى لماذا ترتدي هذه السيدة ما ترتديه؟ كانت تفكر دائماً أن أزياء أخرى تليق بها، لكنها لم تكن تعرف تماماً شكل جسمها. ويوم طُلب منها أوّل مرة تصميم أزياء السيدة في مسرحية «بترا» اكتشفت شكل جسم فيروز وبدأت تترجم على الورق أزياء تليق بها. المطربة فيروز لم تكن تشبه المطربة صباح، التي سبق أن تعاملت معها بابو لحود في شيء. فيروز كانت أقل طولاً وأكثر نحافة. صباح خسرت وزناً لاحقاً.
وبدأت الحكاية. من «بترا» إلى «معرض الشام الكبير»، حيث تُعرض مسرحيات بيت الرحباني إلى «بياع الخواتم». وكرّت سبحة التعاون.
تميل فيروز إلى كلّ ما هو بسيط وفاخر في آن. وهي شبه مقتنعة بمقولةٍ قديمة لمصممة الأزياء كوكو شانيل هي: أن الأناقة هي الجمال الذي لا يذهب أبداً. فلنترك بابو لحود تحدثنا عنها: «فيروز تُحب الحياة جداً، عكس ما يُقال عنها، لكنها تختار منها ما يُشبهها. بضعة أصدقاء وصديقات فقط لا غير. هي جدية حين يجب وتمازح حين يفترض. تُحب النكات ودمها خفيف وتُحبّ السهر مع الأصدقاء الحميمين ولا تنام قبل الخامسة فجراً. هي تُحبُّ البساطة في كل شيء». وتضيف لحود: «يوم تمّ اختياري كي أصمم ثيابها في بترا أجريت بحثاً مستفيضاً عن شعب الأنباط الذين كانوا أول من سكنوا بترا. و«عمّرت» أزياء من وحي عاداتهم وما يليق بملكة بترا فيروز. وبما أنني واثقة بأن المرأة التي لا تملك طولاً فارعاً يفترض ألا تُثقل جسدها بالأقمشة كي لا يُصبح الفستان هو الذي يلبسها بدل أن تلبسه هي، صممت لفيروز أزياء بسيطة، فضفاضة، لكن مريحة. وتعاملي في البداية كان مع عاصي الرحباني أكثر من فيروز، ثم أصبحت ألتقيها ونجلس معاً ونناقش التصاميم وتتدخل في التفاصيل وسؤالها غالباً: «هل يليق بي يا ترى هذا التفصيل؟». السيدة فيروز تهتم كثيراً بالألوان ويهمها أن تظهر دائماً بفستانٍ فيروزي. هي تتفاءل بهذا اللون الذي اسمها على اسمه. ألبستها في بترا الفستان الأحمر والفستان الأبيض. هي تُحب اللون الأبيض وأنا أحبه. وألبستها اللون الأصفر الذي يميل إلى البرتقالي، والأخضر الذي يميل إلى الأزرق. تليق بفيروز الألوان ما عدا الأخضر الغامق.

في السبعينات

هي صارمة في اختياراتها. إذا لم يعجبها تصميم لا تقبل الجدال حوله. أما في حال أعجبها لكنها تخشى من رد فعل الجمهور عليه، فكانت تسأل وتُكرر السؤال إلى أن تقتنع. أحبت فيروز خروجها في سبعينات القرن الماضي من نمطية صورتها في الستينات. أحبّت الألوان والتجديد. لكنها استمرت كلاسيكية في حياتها اليومية، حيث تظهر بالتايور، جاكيت وتنورة أو جاكيت وسروال، بألوان قاتمة. هي أساساً نادراً ما تظهر. هي خجولة ربما أو ربما هي تُحبذ الوحدة. تُحاول بابو لحود أن تُفكر بصوتٍ مرتفع.
تُحبّ فيروز الدخول في تفاصيل الأزياء التي تطلّ بها. ويوم شاركت فيروز في أولمبيا باريس عام 1979 رافقتها بابو لحود. صديقتها بديعة الأعور كانت أيضاً موجودة. ويومها ارتدت فيروز ثوب بدوية وغنّت فيه باللهجة البدوية أغنية «المشهد البدوي» ومطلعها: «واصل علينا السفر صوت الرواحل شجاني، والبعد لم الصوّر مني وحنينو عطاني».

في الثمانينات

فيروز تحب ارتداء العباءات الفضفاضة وأحبّت كثيراً الدشداشة البدوية. ويومها تركت شعرها منسدلاً. كان حلاقها الخاص رشدي سماحة وهو هاجر لاحقاً إلى كندا. مزين الشعر رشدي كان يعرف كيف يُقنعها باللون والقصة والتسريحة وكانت تطمئن إلى ذوقه وبراعته في التنفيذ».
الفنان سمير يزبك، الذي غنى «الزينة لبست خلخالها» و«دقي دقي يا ربابة» وضع أنامله هو أيضاً على شعر فيروز حين كان عاملاً في صالون جوزف عتيق. فيروز كانت تهتم كثيراً بتسريحاتها وكان يعجبها وضع تيجان وربطات على الشعر في مسرحياتها وبعض إطلالاتها.

في التسعينات والألفيات

مرّت فترات لم تكن فيها تسريحات فيروز كما اعتدناها. وتعلق بابو لحود على هذا بالقول: «شعرتُ بأنها ليست هي. وللأمانة لا أعرف من سرّح لها شعرها في هذه الفترة».
لم تكن هناك غيرة ظاهرة بين الفنانتين اللبنانيتين البارزتين فيروز وصباح في عزّ ألقهما. وتقول لحود: «لم تعلق فيروز أمامي ولا مرة على ثياب صباح ولا صباح فعلت هذا. أساساً هما مختلفتان جداً من حيث الشكل والجسم والصوت ونوع الغناء. لكن في المقابل لم تكونا مغرمتين ببعضهما. كانتا تتصرفان وكأن الثانية غير موجودة ولا تلتقيان إلا في مناسبات قليلة وتتبادلان التحية والكلام السطحيين».

الوقت الحالي

لو قُدّر للمصممة بابو لحود تصميم زيّ لفيروز اليوم، التي بلغت الثالثة والثمانين، ماذا تختار لها؟ تجيب: «أحتاج أن أراها عن قرب لأعرف ماذا أختار لها. جسمها تغير. شكلها تغير. وفيروز نادراً ما تطلّ لنعرف كيف أصبحت. لكن لو قُدّر لي هذا لصممت لها فستاناً يليق بعمرها. كلّ عمر له ثيابه ويفترض أن نتماشى معه، لأن المرأة عموماً في الستين التي تحاول أن ترتدي ما يليق بابنة الأربعين ستبدو وكأنها في الثمانين. هذا لا يعني أن أختار للسيدة فيروز ثوباً «ختيارياً» بل تستطيع أن تظهر في أجمل حلة بعمرها».
نقلب بين أرشيف فيروز فنراها بالسراويل ذات الأرجل العريضة وبفساتين الشيفون الفضفاضة مع الأكمام الطويلة والعباءات الجميلة. فيروز تطورت في إطلالاتها القليلة والمصمم إيلي صعب ألبسها أخيراً. وهي بهدوئها أضفت سحراً على ما ارتدت في كل إطلالاتها.
نغلق البحث على صوتها تغني أغنية «الفستان» وتقول: «قللي حلو هالفستان، قللي مبروك هالفستان، ما ضلّ في إنسان، إلا وقف وتأمل وقللي حلو، ولو شفت كيف تعجبوا الجيران بالخصرِ والزنار والألوان. مبروك هالفستان».
السيدة فيروز إطلالتك لونت المسارح وصوتك دفء لا يبرد.