على صوت ضحك زملائي «العوَّادين» ونداءات الأستاذ «المنسي»: «تعالى يا واد يا شحَّات» تركت فصلَ العودِ إلى فصلِ الفرسِ السَّوداء، البيانو، أرجو أستاذ البيانو أن يقبلني في فصلِه لأني لا أنوي المضيَّ في تأدية دور «الشحَّات» الأضحوكة، بين أناسٍ فشلتُ أن أكون مثلهم في ساعة الدَّرس الأولى صُحبة مارد الفانوس. مزحة الأستاذ المنسي لم تجرحني، إنما ضحك زملائي المتفوقين هو ما دفعني للانسحاب. بذلتُ كلَّ ما في وسعي لتعلُّم العزف على البيانو الذي لا أحب، نكاية بالعود الذي أحببت.
أتذكرني في ظهيرة شتوية ماطرة، في حفل نهاية الفصل، أمام الهيئة التعليمية في المدرسة الثانوية، ومشرفين من وزارة التربية والتعليم ولجنة الحكم من أساتذة المعهد العالي للفنون الموسيقية. كنا نعزفُ «أنا والعذاب وهواك»، وكنت أجلسُ إلى البيانو مُنفرداً منزوياً عن بقية أعضاء الفرقة، أُنقِّل بصري بين النوتة الموسيقية أمامي وعازف العود مغمض العينين، أنظرُ إليه بحسرة نظرة «الشَّحات» الذي رُدَّ طلبه على أبواب وليمة عامرة. وعلى الرغم من إشادة لجنة الحكم بوصلة البيانو فإن سعادةً لم تتسلَّل إلى نفسي قط، وبقيتُ إلى اليوم أُطيل النظر والإنصات إلى العود، وأسترجع منظر كفِّي مبسوطةً أسفل مشطِه، وأتذكر كلمة الأستاذ المنسي التي ما نسيتها أبداً: «يا ابني إنتَ كِده بتِشحَت». أكملت تخصص البيانو في الفصل الموالي على مضض، إذ يمكن للتلاميذ المتفوقين في العزف على آلاتهم الالتحاق بفصل آخر/‏ أخير. كنت أكفُّ عن العزف على البيانو كلَّما ارتفع صوت العود في الفصل القريب، متسلِّلاً إلى روحي. وفي السنة التي تلتها، حيث أنهيت فصلي الموسيقى، حرصتُ على أن ألتحق بفصل الفن التشكيلي، وكانت أول لوحة رسمتها بالألوان الزيتية على القماش لوحة تصوِّر عوداً في الصَّحراء، تخرج من شمسياته جنيَّات حسناوات مكمَّمات الأفواه، وفي الخلفية الصَّحراوية هضبة صخرية شامخة. كان العودُ أمنيتي، والجنيَّات ألحاني الخرساء في مخيّلتي، والصَّحراء نفسي العطشى، والهضبة الصخرية العظيمة؛ صلعة الأستاذ المنسي.
صرتُ كاتباً فيما بعد، ولأنني أؤمن بما يقوله ميلان كونديرا حول شخصياته الروائية إذ يقول: «إن شخصيات رواياتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق»، صرتُ أستعيض بنقصي كتابةً، أمدُّ كفِّي مبسوطةً، وأفرد للعود وعازفيه مساحة في كل رواية أكتبها. أشحذُ ذاكرتي و«أشحتُ» فُتات أمنيات قديمة. أغازل العودَ ولسان حالي يردِّد غناء عبد الوهاب في مقطوعة المدرسة الثانوية، في حفل الفصل الختامي قبل 22 عاماً:
«عهد الهوا صنته، وعمري ما خنته، ولا بعت أيامه/‏ الحب خبّيته، وبقلبي غنيته، وعشقت أنغامه/‏ وقلت أغني وياك يا قاسي، بعدت عني وفضلت أقاسي/‏ واحتار شبابي معاك، والوجد فاض بينا، صابر وبستناك، والصبر مُش لينا».