لا نعرف عن الشاعر الكبير ماياكوفسكي سوى كونه شاعر الثورة الروسية العظيم. مع أن المخفي وراء هذا المناضل شاب عاشق لم يتحمل سرقة حريته، وفراق حبيبته، ومنعه من السفر إليها. فقد كتب في البداية شعراً كثيراً جسد من خلاله علاقته بثورة أكتوبر 1917. وربما كانت قصيدته غيمة في سروال التي بدأها في 1914 هي أهم نص عبر من خلاله على رفض كل النظم الظالمة. قصيدة صادمة رفض فيها كل شيء مما كان يحيط به: فليسقط حبكم. فليسقط فنّكم. فليسقط نظامكم. فلتسقط ديانتكم.
في أثناء تنقلاته تعرف، في مدينة أوديسا، إلى ماريا ألكسيفنا دينيسوفا، وأحبها بقوة، لكنها سرعان ما تركته وتزوجت رجلاً غنياً. شعر يومها بأن البورجوازية سرقت منه حبه، في ظل تسيد القيم المزيفة والعلاقات التجارية. لهذا حملت قصائده رغباته الكبيرة في الثورة وتغيير المجتمع الظالم. فكان أول المتنبئين بثورة أكتوبر 1917. بعد انتصارها صرخ: إنها ثورتي. أصبح بسرعة صوت الشعب الروسي المنتفض ضد الظلم. أخضع القصيدة للمتطلبات الفنية خارج البلاغة الروسية الثقيلة والمعقدة. فجاب روسيا كلها عبر المزارع والمعامل محرضاً على الثورة من أجل ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية. في سنة 1922 سافر إلى ألمانيا وفرنسا والمكسيك وأميركا، قال بعدها جملته الشهيرة: «جئت لأُدْهِش، لا لكي أندهش». ليثبت أن ما حصل في روسيا كان كبيراً. سيغير وجه العالم. شكلت زيارة باريس لحظة كبيرة في حياته، إذ لأول مرة يخرج من المدارات السياسية التي ابتلعته. تعرف بباريس إلى شابة من أصول روسية سحرته: تاتيانا ياكوفليفا. ارتبط بها لدرجة أن نسي كل شيء. فكر في الزواج منها والمكوث في باريس نهائياً. اضطر بعدها إلى العودة لموسكو ليغرق من جديد في دوامة حياة سياسية قاسية سيدتها البيروقراطية التي قال فيها: «لو كنت ذئباً لقضمت البيروقراطية». ظل مشدوداً إلى تاتيانا التي كانت تمنحه السكينة والراحة. وتصيدته البيروقراطية، والانتهازية، فبدأت عزلته القاسية. قصيدته مئة وخمسون مليوناً الانتقادية، استقبلت بغضب من المؤسسة السياسية، لكنه ظل وفياً لقائد الثورة، لينين، ورثاه في قصيدة طويلة في 1924: لكن البيروقراطيين، كانوا له بالمرصاد، فشددوا الحصار عليه، وضيقوا عليه الحياة، فسخروا منه ومن شعره. أعادته العزلة القاسية التي فرضت عليه لحبيبته تاتيانا التي شكلت له ملجأ روحياً. ظل اللحظة التي يترك فيها كل شيء ويركض نحو حبيبته. وعلى الرغم من دخوله في علاقة جديدة في 1925، في إحدى جولاته في الولايات المتحدة، مع إيلي جونز التي أنجب منها ابنته الوحيدة، فقد تاتيانا ياكوفليفا لكنها حبه الأكبر. كتب فيها واحدة من أجمل قصائد العشق، في 1928 بعنوان «رسالة إلى تاتيانا ياكوفليفا». تواصل معها وأكد لها على ترك كل شيء والسفر إليها. ظلت تنتظره بحب وشوق. لكن الآلة البيروقراطية كانت أقوى وأخطر. فقد منعته من السفر وأصبح الشاعر الكبير لا شيء. وتم عزله كلياً. أدرك بسرعة أن حياته انتهت وأن حلمه قد سُرق منه. فحرر تاتيانا من حلم لم يعد ممكن التحقق. بعد مدة قصيرة تزوجت مرغمة من الفيسكونت دوبليه. دخل في ظلمة قاسية لم يخرج منها أبداً. حتى بؤرة الضوء الوحيدة، سرقوها منه بعد منعه رسمياً من السفر، ووضعه تحت الرقابة المميتة. عرف ماياكوفسكي أن شاعر روسيا العظيم قد مات. في 14 نيسان 1930، عثروا عليه جثة هامدة بعد طلقة مسدس، يتوسد بعض كلماته الأخيرة: أمي، أخواتي ورفاقي، حبيبتي، سامحوني. هذه ليست الطريقة الصحيحة، ولا أنصح أحداً بها، لكن لم يكن لدي أي خيار آخر.