«لا تقل أحبّك فلقد سمعتها بعدد نجوم السماء. افعل ما يمليه عليك حبّك، فنادراً هم الصادقون». (غسّان كنفاني) أمازال من يستحق رسائلنا، وقد أصبحت الرسائل مصدر رزق بالنسبة للبعض، وضربة مجد أو مباهاة للبعض الآخر، ووسيلة شهرة وتشهير لمن ليس له ضمير؟ هل كانت تدري الأميرة ديانا أنّ الضابط البريطاني الذي أحبّته في لحظة خيبة وضجر، وكتبت له تشكو وحدتها، سيعرض رسائلها يوماً للبيع بذريعة حاجته إلى المال، وأنّ ابنها الذي تركته طفلاً سيشتريها، حين يكبر، بعشرة ملايين جنيه استرليني، ليحمي حرمة أمّه في قبرها، وليمنع عرضها في مزاد علنيّ؟ لعلّ أجمل قصّة في هذا السياق، هي ما حدث للكاتب الأميركي ج. د. سالنجر المشهور باختفائه عن الأنظار، إلى أن اخترقت عزلته صبيّة، ما إن فازت ببضع رسائل منه حتى عرضتها للبيع في المزاد، بحجّة حاجتها لدفع تكاليف دراستها. فقد اشترى أحد الأثرياء من محبّيه الرسائل وأعادها للكاتب، مبرهناً على أنّ قرابة الحبر قد تضاهي قرابة الدم، وأنّ حرص القارئ على كاتبه، وغيرته على اسمه، لا يقلان عن غيرة وحرص أبنائه وأهله عليه. أتصوّر أنّه قال له وهو يعيدها له: «خذ رسائلك أيّها الغبيّ.. ولا تُعد حماقتك مجدّداً!». رسائل الحبّ اليوم تُعرض للبيع، بعضها في مزاد وأخرى في مؤلّف، يمكنك شراؤها إن كنت تملك ثمن الانفراد بامتلاكها، أو الاكتفاء بقراءتها بثمن كتاب، فهل ما زال هناك من يجازف بائتمان أحد على مشاعره ودموعه؟! ما الذي يجعل العشاق يجازفون بإيداع دموعهم وبوحهم في رسائل لا يدرون أين ستنتهي، مراهنين على سطوة الحبر وتأثيره في حبيب مفارق؟ ذلك أنّ ثمّة من يتربّص بضعفك البشريّ، ويجمع فتات كلماتك، ونزف قلبك العاشق قطرة قطرة، في انتظار موتك، ليصنع منها كتاباً، بذريعة أن ما يكتبه الكاتب هو ملك الأدب. البعض يملك شجاعة منقطعة النظير تمكّنه من التجوّل الإشهاري في أوراق كاتب رحل، وعرض تخطيط قلبه يوم كان عاشقاً، ونشر وشوشاته، وذبذبات مشاعره، على بشر يواصلون التلصّص على ذاكرته بعد موته. وذلك من دون أن يكون لهذا الكاتب حق الدفاع عن نفسه، أو نشر ما في حوزته من رسائل الطرف الآخر، فهو كاتب مستباح بحكم رحيله، سيُنكَّل به باسم الحبّ حيناً، وباسم الأدب في حينٍ آخر، ولن يُمنح حقّ الردّ، ليبدو رغم رفعة قامته غبيّاً ومراهقاً يكتب عشرات الرسائل لمن ليس معنيّاً بالردّ عليه. ذلك أنّ النرجسيّة العربيّة تستدعي أن يكون الميت في دور «المجنون» وأن تكون «ليلى» مشغولة عن ألمه بالتباهي بمعلّقاته. ولا يهم إن سبّب ذلك للأحياء من أهله صدمة قد تؤدي بشريكه إلى المستشفى، وهو ما حصل فعلاً لزوجة كاتب ومناضل فلسطيني كبير، بعد قراءتها ما كتبه زوجها الراحل لكاتبة مشهورة يشكو لها حبّه وعذابه، بينما كانت هي، الزوجة «الغربيّة» التي عقدت قرانها على قضيّته، منهمكة في رعاية أبناء شعبه في المخيّمات الفلسطينية . الكاتبة الكبيرة التي لم تنشر رسائلها إليه قالت إنها بهذا تفضح «الجبناء الذين يخافون الحقيقة». إن كان بعض الظنّ إثماً، فبعض الجُبن وفاء.. وبعض الجُبن خلق وحياء.. فـ«الحقيقة» لا تؤذي الأموات بل الأحياء!