ترجم الإعلامي اللبناني والأستاذ الجامعي بسام براك عشقه للغة العربية، وشغفه بمفرداتها وحروفها ومعانيها، من خلال إطلاقه مبادرة مسابقة «إملاؤنا لغتنا»، بالتعاون مع الجامعة الأنطونيّة في لبنان، منذ أكثر من ست سنوات، حتى أصبحت اليوم بمثابة طقس سنوي يحتفي باللغة الأم في يومها العالمي، بمشاركة لفيف من الوجوه اللبنانية السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، الطلابية وحتى العسكرية. فماذا يقول براك عن مبادرته هذه، وعن وضع اللغة العربية ومستقبلها في زمن العالم الرقمي؟ ومَن في رأيه المسؤول عن تراجُع الإنسان العربي أمام استخدام لغته الأم؟

يرفض الإعلامي بسام براك الدفاع عن اللغة العربية في حديثه مع «زهرة الخليج»، «لأن الدفاع يكون عادة عن متهم، واللغة العربية ليست متهمة لنُدافع عنها» بحسب رأيه، ويضيف: «اللغة العربية هي حامية الإنسان في المنطقة العربية وحامية هويته وتراثه، لا بل هي التي ترسم كيانه وتميزه وتمنحه استقلاليته، إلا أنه لم يعد يلجأ إلى استخدامها». وينبه براك من مغبة التخلي عنها «لأننا بذلك نُسهم في تدمير جانب مهم من تراثنا» على حد تعبيره.

بيئة مختلفة

ويسأل براك: «ماذا يعني أن نكتب باللغة الأجنبية على واجهات المحال التجارية؟ وماذا يعني أن يتحدث أولادنا بمفردات غير عربية؟». ويرد شارحاً: «إن الاقتصاد بمثابة لغة أيضاً تقتحم لغتنا الأم ليس بمفرداتها فحسب، بل أيضاً بمفاهيمها ومعاجمها وفكرها، فمثلاً من خلال المطاعم الأجنبية، يسهل انتقال السيطرة الاقتصادية من البطون إلى الفكر». ويتابع بسام بالقول: «نلاحظ اليوم أن الجيل الجديد لا يعرف أسماء الكثير من الأشياء المتعلقة بحياته اليومية باللغة العربية، لكنه يسمّيها بأسمائها الإنجليزية، علماً بأنه ليس على اطّلاع بالأدب الإنجليزي ولا بتراثه، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على خطورة ابتعاد هذا الجيل تدريجياً عن حياته العربية الأصيلة، ولجوئه إلى بيئة هذه اللغة الأجنبية بمفاهيمها ومصطلحاتها وأفكارها».

اللوبي التجاري متهم

وعن المسؤول عن إقصاء اللغة العربية، يوجّه براك أصابع الاتهام إلى اللوبي التجاري والاقتصادي الذي يروّج لفكرة أن الحداثة لا يمكن أن تقوم على اللغة العربية، ويُعقّب مُبيّناً خطأ هذا الاعتقاد، من خلال الإشارة إلى أن العرب ومنذ أيام الجاهلية كانوا من أصحاب العلم، فهم الذين اكتشفوا علمَي الفلك والطب، على حد قوله، لكن الفرق أنهم لم يضعوا لهذه العلوم نظريات مكتوبة، فأتى بعدهم من وضعها. بالتالي، هم أساس العلوم، مما يعني أن اللغة موجودة عند العرب منذ مئات السنوات، وفق كلام براك، «لكن نحن الذين لا نوظفها». إذن، كيف يُمكننا مواجهة هذا الواقع؟ يُجيب: «علينا أولاً أن نعود لتقدير تراثنا وعلمائنا وشعرائنا، وعلينا أن نؤمن بأن لغتنا العربية يمكن توظيفها في الحداثة، ربما يجب على مجمع اللغة العربية في مصر أن يُعيد تفعيل دوره، وينشط في إيجاد مصطلحات باللغة العربية تقابل المصطلحات الأجنبية الجديدة، وتصبح لدينا مفردات وكلمات قابلة للاستخدام في الحياة اليومية، كأن نسمّي الـ«يو.أس.بي» على سبيل المثال «حمّالة المعلومات».

نفض الغبار

وعن رأيه في تراجع اللغة العربية في زمن العالم الرقمي، يشدد براك على ضرورة توضيح مسألة في غاية الأهمية، وهي أن اللغة المستخدمة على هذه المنصات ليست عربية إطلاقاً، وإنما لغة اخترعها الناشطون أصحاب الصفحات الافتراضية كما يصفهم، «لأنهم عاجزون في الأساس عن الكتابة باللغة العربية السليمة، فنراهم يكتبون بأي لغة متوافرة بين أياديهم. لهذا لا يمكن القول إن اللغة العربية تتراجع، وإنما الإنسان هو الذي يتراجع أمامها». ويتابع براك، مشبّهاً حالة اللغة العربية بالآنية الموجودة في المنزل، والتي لا يستخدمها أصحابها، ظناً منهم أنها أصبحت غير صالحة للاستخدام، ويقول: «اللغة موجودة في المعاجم والقواميس.. اللغة ثابتة وحاضرة، لكن علينا أن نذهب إليها ونُنزلها من على الرف وننفض الغبار عنها».

خطوات حماية

وعن الخطوات المطلوب اتخاذها لحث الإنسان على اللجوء إلى استخدام اللغة العربية في حياته اليومية، طالب براك بإيجاد مبادرات عديدة على غرار «إملاؤنا لغتنا»، وأن يكون هناك أكثر من إطلالة لغوية في العام الواحد لتحفيز الناس على توظيف لغتهم الأم في حياتهم اليومية، داعياً الحكومات العربية إلى فرض شروط على القنوات التلفزيونية، بضرورة إنتاج أو بث برنامج واحد على الأقل باللغة الفصحى. وتمنى براك من الإعلاميين، الخضوع لدورات تعلم اللغة العربية حتى يتقنوا أداءها بشكل صحيح، ويمتلكوا المعرفة الكافية بها، ليتمكنوا من تشكيل كلماتها ومفرداتها بشكل سليم وصحيح. كما طالب الجامعات والمدارس بإيلاء اللغة العربية مزيداً من الاهتمام، من حيث فرضها مادة رسمية وأساسية للتخرج، وإلا فإنه يُحذّر من «أننا مُقبلون على إهمال ونسيان وتناسي لغتنا».

مبادرة تحفيزية

عن مبادرة «إملاؤنا لغتنا»، يقول الإعلامي بسام براك، إنه يتحدى نفسه سنوياً في إعداد نص المسابقة، يتميز بمفرداته الصعبة وغنى صوره الأدبية التي تتناول موضوعاً يختاره بعناية كل عام. فهذا العام حمل النص عنوان «محامو بلادي»، استعرض فيه فكرة الظلم والعدل واللا عدالة، بينما حمل نص العام الماضي عنوان «جيش بلادي»، استرجع خلاله براك مسار الجيش اللبناني وقادته الكبار، وقبله كان نص بعنوان «رئيس بلادي»، تناول فيه 13 رئيساً للجمهورية اللبنانية، منذ استقلال لبنان. ويوضح أن إعداد النص يستغرق منه قرابة الشهر ونصف الشهر، يجلس مع قواميسه ويُمعن في استخراج الكلمات تماماً كعلماء الآثار والمنقّبين، فيستبدل كلمة بأخرى، مُتعمّداً استخدام مفردات صعبة بهدف منح المتبارين والمشاهدين، الذين يتابعون المباراة مباشرة على الهواء، فرصة تذوّق هذه اللغة الغنية بمفرداتها، وتعريفهم بكلمات بات استخدامها نادراً أو شبه معدوم. ويشير الإعلامي والجامعي بسام براك، مُختتماً إلى أن «الهدف من الجوائز التي تُمنح للفائزين تحفيزهم أكثر إلى استخدام لغتهم الأم وإتقانها كتابةً وقراءة».