أشار قيرتز إلى وجود أكثر من مئة وستين تعريفاً للثقافة، وهذا يؤكد وجود هوس معرفي لتعريف أمر كان بسيطاً فعقدته الرغبات الأكاديمية، ذاك أن الثقافة هي ما نمارسه سلوكاً على المستوى اليومي في سبل المعاش نفسها وفي السلوك اللفظي وصيغ العلاقات، أو ما توارثناه عن سلفنا وكذا ما نتقاطعه مع متغيرات الزمن والاحتكاك الحي، ولهذا جانب حر يتم باختيار ذاتي كأن تلبس وأن تأكل بنظام تلقائي لا قسر فيه، إذ لا أحد يجبرك على مذاقك في الأكل وفي اللبس، ولكنك تختارهما تبعاً لسياق عام تعيش فيه، حسب المتوافر، وإذا كثر المتوافر جاء الاختيار، والاختيار ينتظم عبر صيغة المحاكاة حيث يتفوق طعام أهل الثراء ليكون في قمة الاختيارات، ويتحدد معه مصير المذاقات تماماً كحال اللباس حيث يتميز لباس الأكابر ويصبح هو المقاس المجتمعي، ومثلها يجري للغة نفسها حيث يرتفع مقام المعجم، وتوجهه أساليب المقام والهيئة، وعبر نظامي المعاش والسلوك اللغوي تأتي صيغ العلاقات العامة لتكون الدليل على المقام وتكتمل ثلاثة وجوه لخارطة التصورات لأي بيئة مجتمعية في حقبة ما ومكان ما، وهنا ستصبح هذه هي المكون الثقافي لهذه المجموعة البشرية، وبما أنها تختلف عن مكونات بيئة أخرى فستوصف بأنها الثقافة العربية أو الفرنسية مثلاً تبعاً لما لها من مكونات استقرت، حتى أصبحت علامة عليها.


ثم مع الاستقرار يجري توارث هذه الصيغ ويتولى الزمن تثبيتها حتى تبلغ درجة الهوية وتلتصق بالأمة مثل التصاق اسمك بك، وأنت به.

وحينها تأتي كلمة (الثقافة) لتكون وصفاً لما تثبت ثم تصبح اسماً له ثم ترتفع لتكون هوية وانتماء، وهنا يأتي القيد، وبعد أن كان الأمر خياراً واختياراً فسيصبح قيداً، وتكون مخالفته بمثابة الخروج عن الجماعة، وسيكون الخروج قدحاً بأخلاق الفاعل ونقصاً في ذوقه ونقصاً في إخلاصه لأمته.


وهذا يفسر كيف أن العادات والتقاليد صارت بمنزلة المعتقدات، مع أنها في أصلها مجرد خيار ظرفي، ولكن توارثها وتواترها معاً حولاها لرسوخ يتمرد على التساؤلات.


ولو طلبنا وصفاً للثقافة، لقلنا إنها هي أنا وأنت وهو وهي، بما نفعله ونتلفظه باختيارنا، الاختيار الحر منا كأفراد أو الخيار الجمعي المتوارث،  شيء يمنع اختياراتنا إلا نحن، أي أنك تتصرف وتتلفظ تبعاً لنظام المجموعة التي أنت فيها وغالب البشر ينساقون وراء خيارات الجماعة ولا يرون ضرراً في ذلك، نظراً لما للخروج من تبعات لا يريدون تحملها، وهم هنا يختارون قيودهم وكأن الحرية في القيد بما أنه أسهل الخيارات. وهنا تأتي الفروق الثقافية مع كل حالة انفتاح ثقافي مما يتيح دخول خيارات أخرى ويخفف من القيود فيساعد على التعددية الثقافية.

تلك هي الثقافة التي تعقدت على أيدي الباحثين لأنهم ظلوا يجنحون لتقييد الحر وحبسه في كلمات، ولكن خيار الكلمات بين باحث وباحث أنتج أكثر من مئة وستين تعريفاً لنظام مسلكي من طبعه التعدد حسب تغير الأحوال والأزمنة والمقامات.