في مقال سابق بعنوان «الخصمان»، وقصدت بهما العقل والقلب، وما يمثلانه من الحساب المكتسب والعاطفة الفطرية، أشرت إلى أن البخيل يخلو من العاطفة عادة، وقد قال أحد الأصدقاء إن هذه النتيجة بحاجة إلى إعادة نظر، وما إن ذكرت له قصة المليونير الإنجليزي الذي اشتهرت قصته بالصحف البريطانية، عندما اختطفت عصابة حفيده الوحيد لابنه الوحيد، وطلبوا فدية، فقرر عدم دفعها، فقاموا بقطع أذنه وإرسالها له، وقد شنت الصحف البريطانية وقتها حملة حول بخله، وخضع أخيراً وسلم الفدية، مقابل أن أخذ إقراراً من ابنه على أن يكون المبلغ ديناً عليه، يقوم بسداده من مرتبه الذي يحصل عليه من عمله مع والده، علماً بأن الأب البخيل ليس ليديه وريث إلا ابنه الوحيد، عندها تغيرت نظرة صديقي لفكرته، وأخذ يسترجع من يعرفهم من البخلاء في المجتمع.

فهناك بخيل لا يمل الحديث عن الكرم وأهميته، ولكنه لا يمارسه سلوكاً، فكأن البخيل خير من يتحدث عن الكرم، متمثلاً المثل العربي الذي يقول الساقطة خير من يتحدث عن الفضيلة، وحين يدخل الكرم مع القيم السامية في المجتمعات، يدخل البخل بقوة مع الصفات المذمومة في الإنسان.

وكما يقال لم تترك العرب شيئاً لم تقل فيه حكمة أو شعراً، ومن ذلك أن الكريم يشعر دائماً بالغنى، بينما يشعر البخيل دائماً بالفقر، وما تتركه وتتخلى عنه هو لك، وما تحتفظ به فهو لغيرك، ولو تفرغنا للشعر العربي لاحتجنا مساحات أكبر هنا، وأكتفي بهذا البيت:
الجود مكرمةٌ والبخل مبغضةٌ          لا يستوي البخل عند الله والجودُ

ونعود إلى الإشارة الأولى في المقال، وهي هل يخلو البخيل من العاطفة؟

وعلى الرغم من أنه لكل مقولة حقائق ونقائض، ولكن هناك ما يقال عنه الغالب الأعم، وهي فعلاً هكذا، فقد يذهب البخيل ببخله حتى بالمشاعر، ربما لأنه يراها تدفعه إلى ما لا يريد من الحرص، وقد تملي عليه التعاطف مع المحتاج، وبذل المال له، وهذا ما يتجنبه البخيل دائماً، حيث إن العقل والحسابات التي يقيمها برأسه، هي التي تملي عليه مسيرته في الحياة، وهي التي تقود سلوكه الاجتماعي، وإن تستر بحلو الحديث.