في غرفة الجلوس، بين جدَّته وأبيه وشقيقه الذي يصغره بأعوام أربعة، كان ذو التاسعة يتصفَّح مجلة في ركن الغرفة، وكان شقيقه يعانق أباه ويُفضي له: «إذا ما كبرت وتزوجت وأنجبت ولداً؛ سوف أُسميه على اسمك». ضحك الأب إزاء حديث صغيره عن الزواج والإنجاب في غير أوانهما، وسأله عن السبب. أجابه الصغير: «لأنني أحبك». كان هذا ما فعله الأب باسمِ الجدِّ أيضاً في عُرفٍ متوارث. التفت الأب باسماً إلى ابنه ذي التاسعة يسأله: «وأنت؟». لم يرفع الصبي عينيه عن مجلَّته وهو يُجيب: «سوف أسمي ولدي أي اسمٍ في العالم إلا اسمك!». ابتلع أبوه ابتسامته وعقد حاجبيه يسأل: «لماذا؟». رفع الولد عينيه عن المجلة ينظر في عيني أبيه: «لأني أحبك». مطَّ أبوه شفتيه غير سعيدٍ بالإجابة وهو يضرب الهواء أمام أنفه كأنه يُبعد ذبابة، ونظر إليه شقيقه الأصغر نظرة بلهاء، في حين وحدها الجدَّة ابتسمت له راضية.
والدته كانت كثيراً ما تعاني تضييقه وإلحاحه بالأسئلة وقت يهاتفها: «أين أنتِ؟ هل تربطين حزام الأمان؟»، وكان يُجن إذا ما هاتفها ولا ترد، تُداهمه الوساوس من أخطار الطريق، وإذا ما عاودت الاتصال به وجدته قد أوشك على الجنون خشية عليها، حتى أحالت رنَّة هاتفها إلى «صافرة إنذار»، تُضحك من حولها، كي تنتبه لاتصال صغيرها المريض بمحبَّتها. وكان المقربون يسألونها: «ألا يُزعجك؟». تكتفي الإجابة: «لأنه يحبني».
الحب واحد، إنما تتجلَّى صوره بأساليب تعبير مختلفة. ليس مهمّاً أن يُفضي لك الآخر بمكنون مشاعره تجاهك على طريقة مُفصلة بمقاييس فهمك، المهم أن تفهم أنت وأن تلمس تلك المشاعر في سلوكه وبطرائق تعبيره وإن لم توافق الدَّارج في معرفتك.
في مصنع النُّسخ المكررة الذي نعيش فيه يريد منك الآخر أن تعبر عن مشاعرك في أُطر محدَّدة، ليس لك الحق في أن تكون مختلفاً في وسيلة تعبيرك قولاً وكتابة، الكل يريدك أن تعبر عن محبتك لوطنك أو أهلك أو أصدقائك أو عملك وفق السائد، وأي أسلوب مغاير يجرُّك إلى دائرة الرّيبة.
صاحبنا ذو الأعوام التسعة صار اليوم رجلاً، ما زال يعاني عقدة الأسماء ويرفض تسمية أبنائه بأسماء أحبته، حتى إذا ما جاء يُسمي شخوص رواياته، يهربُ بعيداً عن الأسماء المألوفة كي لا تتفرق محبته بين هذا وذاك. يمارس محبَّته لوطنه انتقاداً لكل ما يخدش صورته، لأنه لا يجيد الغناء مع الجوقة متشابهة الأفراد، ولأنه لا يعرف إلا أن يُشبه ذاته في مصنع النُّسخ المكررة.