عبر الشيخ زايد التاريخ مبتسماً، بقلب مؤمنٍ مطمئن، لا يحمل للغير في وجدانه إلا الخير. أنجبته الصحراء نخلة سامقة، فوُلد بأحلام شاهقة. كان رجلاً بكرم نهر، حيثما عبر، أزهرت مروج عطائه، وعلا النخيل على ضفتي مساره، وتساقط الرطب على كل بلاد أوجدتها الأخوّة أو الحاجة في طريقه.. فما كان لخيمته العربية من باب.
ما كان للشيخ زايد من زاد لعبور الصحراء إلى الضفة الأخرى لهذا لعصر، إلا فطرة حكمته. بها وحّد القبائل، وبسداد رأيه دكّ أوتاد خيمة تهدّدها الرياح. فقد كانت له رؤية بعيدة المدى، حمت منجزاته من المخاطر، يختصرها قول المتنبي: «الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحلّ الثاني» وهو البيت الذي يُروى أنه كان يردّده كثيراً، والذي جعل منه دستوراً سياسياً.
كان من سادة الإنسانية، هاجسه خلود المبادئ التي آمن بها، والأهداف التي سعى إليها. وهو يعبر الصحراء، أدرك منذ خطاه الأولى أن الرمال لن تحتفظ بآثار أقدامه، ولا الصحراء ستفي بوعدها في تحقيق أحلامه، فهي لا تؤتمن على الأحلام. وأنه يحتاج إلى أرض صلبة يبني عليها وطناً، وسط الرمال المتحركة التي كانت تتحسسها عصاه، كلّما توغّل في تأمّل الواقع العربي.
دون أي ادعاء، ومن دون أن يتبنّى نظريات في السياسة أو البناء، راح يبني حلمه انطلاقاً من قناعاته البسيطة، ورهانه أولاً على البشر. قبل أن يزرع الأرض التي كان خضارها هاجسه، بنى الشيخ زايد، رحمه الله، الإنسان الذي من دون تشبّعه بحب الوطن لن يعلو للوطن من حجر، وستموت أي نبتة تزرع في تربته، إن لم تُسقَ بالقيم، وبالغيرة على المكاسب الوطنية. وهكذا غدا في مشروعه التأسيسي الغيث لأرض قاحلة، والوتد لخيمة في شساعة وطن، وأصبح هو التاريخ، الذي ما كان يدري هو نفسه أنه في كل ما كان يفعله ويقوله كان يكتبه.
رحل الشيخ زايد، طيب الله ثراه، ذات رمضان في العشر الأواخر، مكفّنا بالدعوات. أعتقد أنّ المرء إن أحبّ بجوارحه تاريخاً أو مكاناً، كتب له الله أن يتوفاه فيه. لا بد أن يكون قد أحبّ رمضان من دون الشهور، وصامه وقامه، وفتح قلبه وخيمته لمحتاجيه وأيتامه، ليُكافئه تعالى باستدعائه إلى جواره في هذا الشهر الفضيل.
متى وُلد الشيخ زايد؟ أقبل قرن أم قبل عقدين من الآن؟ وحده التاريخ يملك الإجابة، فوحده يدري متى كانت لحظة مجيء الرجالات الذين تتغيّر بقدومهم أقدار الشعوب، والذين تبدأ حياتهم يوم يرحلون، لأنهم يُبعثون في كلّ ما حرصوا على أن يعيش بعدهم.