هناك شيء غريب في الثقافة الإنسانية، والعربية على وجه التحديد، شيء غامض يربط الحب بالموت. لنا طبعاً أن نتساءل لماذا؟ حتى اللغة اليومية لا تنجو من ذلك: بحبك موت. أفني فيك. ميت عليك. أموت في حبك... وغيرها من الصيغ المرتبطة بالحب الكبير الذي يقرن دوماً بالموت.
المسألة ليست كلاماً عاماً. الحب معناه أن تضع عواطفك كلها رهن الآخر. أن تمنحه ما تملك. أن تلتقي روحك بروحه، في عملية عشقية بلا حدود وأحياناً بلا منطق. طبعاً يمكن أن نؤول ذلك ونقول إنها مجرد صيغ بلاغية للتعبير بشكل مبالغ فيه، عن الحالة الوجدانية عندما تبلغ أقاصيها، أي سقفها. قد نرتقي بذلك نحو صوفية عالية بحيث يصبح الموت في الحبيب هو ذوبان في الخالق. التماهي في بعض صفاته المتعالية التي لا ندركها داخلياً إلا بالحب. لكن الصور البلاغية المجردة واللغة نفسها، تخضع بالضرورة لما هو حسي وقد يكون هو منبعها. أي أنها لا تنبع من الفراغ. وإلا لماذا نقول أحبك موت. أموت فيك ولا نقول أحبك حياة وأحيا فيك.
هناك شيء يأتي من بعيد يتحكم في لا شعورنا الفردي والجمعي ويضعه أمام أصعب الرهانات الوجودية. يمكننا أن نفكك المعادلة عربياً على الأقل. أولاً  نحن نعيش في مجتمعات محافظة، قلقة عاطفياً، تريد في الوقت نفسه الشيء وضده. الحب فيها كما نعرفه محرم أو يكاد، وكأنه مرض من الأمراض الأكثر خطورة التي يجب تفاديها. تبعاته ليست بسيطة ويمكن أن يؤدي بالعاشق والمعشوق إلى القتل والموت. وهذه مسألة ثقافية معقدة لكنها موجودة، بل تشكل جزءاً من لا وعينا وبرنامجنا الحياتي.
الكثير من الأحداث التي تنتهي إلى القتل أو الانتحار مصدرها الحب، مثلاً الخيبات العاطفية، جرائم الشرف، الحمل غير الشرعي، زنا المحارم وغيرها. وكأن في الموت جاذبية سرية تقود الناس نحوها.
هناك الموت الرمزي أيضاً، حيث يضرب العاشقان الممنوعان من الحب عن الحياة حتى الموت. وكثيراً ما تزوج العاشقة إلى أول خاطب لها للتخلص منها، لتكتشف بعد زمن طويل أنها لا تزال معلقة على شجرة حبيبها، وقد يؤدي بها ذلك إلى الانتحار.
الحب قاتل، ليست جملة مفرغة من المعنى، لكن لا بد أن يكون لها مدّ تاريخي متأتٍّ من العصور البدائية عندما وعى الإنسان جسده وحواسه وحاول إخراجها من غرائزها ونزعاتها الحيوانية؛ لهذا لا شيء اعتباطياً في الحياة. لكل التفاصيل معنى حتى تلك التي تمر عفوية صامتة ولا نعيها وكأنها فعل عبثي. للطبيعة نظامها الكبير والمعقد.