ما إن يقترب اليوم الذي يقام فيه «العشاء الأبيض» في باريس صيف كل سنة، حتى يسيطر الفضول على المهتمين والمتابعين للفعالية، عن المكان الذي سيجتمع فيه الناس هذه المرة، والفعالية الترفيهية احتفلت في يونيو الماضي بمرور ثلاثين عاماً على انطلاقتها، وشارك في اجتماعها الأخير 17000 رجل وامرأة. ولكن ما «العشاء الأبيض؟».

لقاء سنوي ينظم في مدينة باريس، يشارك فيه آلاف الأشخاص من دون الحصول على ترخيص من السلطات، حيث يتجمعون في مكان مفتوح وعمومي لتناول وجبة عشاء معاً. ويرتدي المشاركون في العشاء اللون الأبيض لزاماً من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين. المثير في الأمر أن المنظمين يحتفظون بمكان اللقاء بالضبط سراً لا يخبرون به المشاركين ولا السلطات إلا قبلها بأقل من ساعة، حيث يتواصل المشاركون برسائل نصية تخبرهم بمكان اللقاء.

فكرة فرنسية

«العشاء الأبيض» هي فكرة فرنسية انطلقت من باريس عام 1988، تقوم على الاحتفاء ببعض القيم المجتمعية المرتبطة بنمط العيش الفرنسي، مثل حب الحياة وتقدير الطهو الراقي والاهتمام بالأناقة. شارك في الدورة الأولى منها بضع عشرات من المدعوين إلى أن أصبحت بعد ثلاثين سنة فعالية عالمية، تقام في أكثر من 80 مدينة. وتم تسجيل أكبر عدد من المشاركين عام 2009 حيث بلغ عددهم 10 آلاف مدعو، يرتدون جميعهم اللون الأبيض ملؤوا أرجاء ساحة لاكونكورد الشهيرة في باريس. وفي العام الماضي 2017 التحق بـ«العشاء الأبيض» 8000 شخص، أحضروا معهم طاولاتهم وكراسيهم المطوية، وأطقم المائدة من مفارش بيضاء وفضيات وأواني الطعام، وشغلوا أرجاء الساحة المقابلة لفندق «أوتيل دو فيل» في باريس تحت شعار «الصداقة والأناقة والطهي الراقي».

سلطات متسامحة

يستفيد أصدقاء «العشاء الأبيض» من تسامح تام من قبل السلطات الباريسية، وذلك لأن الفعالية تتم في إطار تنظيم صارم يكاد يكون عسكرياً، وتحت وطأة لائحة من الشروط التي يفرض على المشاركين الالتزام بها، فمثلاً يمنع على المشاركين إحضار الجعة أو المشروبات الكحولية، كما يلتزمون بتنظيف المكان الذي تناولوا فيه العشاء ويأخذون معهم جميع نفاياتهم، بحيث وفي غضون ثلاث ساعات، يتركون المكان نظيفاً كما وجدوه بالضبط.
يقول مبتكر ومؤسس الفعالية فرانسوا باسكيي لوكالة أنباء «إي إف بي»: «ليست لدينا أي مشاكل مع السلطات فهم متسامحون جداً معنا.
 كل ما نفعله هو أننا نعلم مديرية الشرطة مسبقاً بتاريخ اليوم الذي سيقام فيه «العشاء الأبيض»، ولكننا لا نعلمهم بمكانه إلا قبلها بدقائق، ففي دورة هذا الصيف مثلاً، أي الدورة الثلاثين لتنظيم هذه الفعالية، لم يتم الإعلان سوى عن تاريخ الأحد 3 يونيو».

أصل الحكاية

يعود الفضل في تنظيم هذه الفعالية لفرانسوا باسكيي، ذلك الفرنسي الذي نظمها لأول مرة عام 1988.
كان باسكيي يعمل مديراً لشركة، وهو الآن متقاعد.
كان من أحلامه أن ينظم عشاء في الهواء الطلق في أجمل الأماكن العمومية في باريس، وظل كذلك إلى أن لاحت له الفرصة، فعقب عودته من إقامة طويلة في تاهيتي قرر أن يدعو أصدقاءه جميعاً إلى العشاء لتجديد الصداقة معهم، ولأن حديقة منزله كانت صغيرة، فدعا أصدقاءه جميعاً، ومن دون أن يأخذ إذناً من السلطات الأمنية، إلى حفل عشاء «بيكنيك» في منتزه بولوني. وعن ارتداء اللون الأبيض، يقول إنه اختار أن يرتدي الجميع اللون الأبيض لكي يميزهم عن باقي المارة العاديين.

نمط العيش الفرنسي

يقول باسكيي: «كنت سعيداً جداً بنجاح «العشاء الأبيض»، وعلى الرغم من أن عدد المشاركين كان في تزايد ملحوظ خلال السنوات الأولى، إلا أنني لم أكن مدركاً أننا بصدد خلق ظاهرة عالمية بهذا الحجم». وأضاف: «عنصر «اللمسة الفرنسية» ونمط العيش الفرنسي هو الذي يبرر انتشار الفعالية عالميا. الشيء الوحيد الذي نطلبه من المنظمين والمشاركين في أي مكان في العالم هو أن يتصرفوا بشكل ينم عن حسن التربية، وأن يبرزوا سلوكات حضارية من أجلهم ومن أجل المكان الذي تناولوا فيه عشاءهم».
ويردف باسكيي: «البعض يتهمنا بأن الحدث خاص بالأغنياء الذين يسعون إلى التباهي، لكن على العكس من ذلك، نحن جماعة من الأشخاص المتحضرين الذين يحبون الاستمتاع بأسلوب حياة راقٍ بأقل تكلفة ممكنة.
نفرض على جميع المشاركين أن يكونوا بسطاء وأن يتناسوا طبقاتهم الاجتماعية، فخلال هذا العشاء نكون جميعاً سواسية، وليست هناك أي معاملة خاصة لشخص دون الآخر، حتى لو كان من الأثرياء أو من المشاهير».

انتشار عالمي

يوضح باسكيي أنه حتى الآن، تم استنساخ هذه الفعالية عن باريس (بعد الحصول على موافقة صاحبها) وتنظيمها في عشرات المدن العالمية الأخرى مثل نيويورك وبومباي وكوبنهاغن وريو دي جانيرو وبنما وزغرب وكوالالمبور وبانكوك. وأن هناك حوالي 800 مدينة أخرى تقدمت بطلب تنظيم الفكرة لديها، وما زالت في قائمة الانتظار. ويشدد باسكيي على أنه سواء تم تنظيمها في باريس أم خارجها، فإن قواعد التنظيم والمشاركة دائماً ما تحترم بحذافيرها وأهمها: الالتزام بالحضور مهما كانت حالة الطقس، إحضار المشاركين موائدهم المطوية الخاصة بهم، وبمقاسات موحدة للحفاظ على تناسق مظهر الفعالية، إحضار الكراسي والأواني، إحضار كل شخص الطعام الذي سيتناوله، عدم المبالغة في شرب الكحول، التنازل عن المقاعد التي تقدم أفضل رؤية للمكان للنساء الحاضرات، وعدم ترك أي نفايات في المكان بعد انتهاء العشاء. وهذه القواعد رسمية ونهائية ويقول: «إن عدم الالتزام بأي واحدة من هذه القواعد يعرض صاحبها للحرمان من المشاركة في أي عشاء أبيض آخر في أي مكان في العالم».

أماكن ذات معنى

عام 2014، شارك في فعالية «العشاء الأبيض» 12000 مدعو يرتدون الأبيض، تناولوا جميعهم وجبة العشاء على مجموعة من جسور باريس القديمة، بينما تناول المدعوون العشاء في سنوات أخرى، في أماكن مثل «ساحة فوج» و«تروكاديرو» وعلى سفح الهرم الزجاجي في متحف اللوفر، وأمام كاتدرائية نوتردام، وعلى جوانب شارع الشانزيليزيه. ويقول المنظمون إنه من بين 17000 شخص الذين شاركوا في دورة 2018، كان هناك 6000 مدعو من جنسيات غير الجنسية الفرنسية، قدموا إلى باريس خصيصاً للمشاركة في الحدث.