قبل أن يفكر بشراء حريته بثمن باهظ وتقديم استقالته من الوظيفة، كان مأزوماً بخانة المهنة في جواز سفره «موظف»، تلك الصفة التي ما انفكت تذكره بعبوديته وتدجينه وحشره في نظام لا يشبهه، نظام يقوم على استنساخ الأفراد وجعل واحدهم صورة عن الآخر بأهدافه وسلوكه ونمط تفكيره. ذلك المكان الذي لا يراه إلا بصورة الشخص غريب الأطوار الغارق في التفاهة وتأليف القصص المسلية.
وكنوع من الاحتجاج وإرضاء الذات قام بتغيير توصيف المهنة في جواز سفره إلى «كاتب وصحفي»، تلك الصفة التي تشبهه، والتي منحته قيمةً ووجوداً وفرادة بين كل النسخ المكررة من حوله.
جنى ثمار ذلك التغيير، احتراماً، في أسفارِه شرقاً وغرباً. يُظهر له موظف الجوازات في أحد مطارات الهند تقديراً مبالغاً فيه وهو يسأله إن كانت له إصدارات مترجمة، وفي الولايات المتحدة يبتسم له الموظف بعد ختم الجواز متمنيّاً أن تمنحه الزيارة إلهاماً لكتابٍ جديد، وفي باريس تفتح له المتاحف والمعارض الفنية أبوابها بالمجان بمجرد إظهار جواز سفره وإثبات صفته «كاتب وصحفي»، مع السماح له بالتصوير الفوتوغرافي حتى في الأماكن التي يمنع فيها التقاط الصور من قِبل العامة.
شيئاً من تلك الحظوة لم يجد في كثير من مطارات الدول العربية حيث ينتمي. تلك الصفة التي أحبها في جواز سفره جرَّت عليه المشكلات واحدة تلو الأخرى، فلا تخلو زيارة لأغلب الدول العربية من تأخير ومعاملة تشوبها الريبة تصل في بعض الأحيان إلى التحقيق مع موظف استخبارات؛ سبب الزيارة؟ الجهة التي تعمل بها؟ مصدر الدخل؟ نوع الكتابات؟ هل تكتب في السياسة؟ ما رأيك بكذا وكذا؟ ويوغل البعض في الأسئلة عن تفاصيل رواياته، أحداثها وانتماءات شخوصها، ويحدث أن يختم الموظف على إحدى صفحات جواز سفره: «مراجعة أقرب مركز أمني» بسبب تلك الشبهة الموصومة بـ«كاتب وصحفي».
بتلك الصفة كان يُقيم اللقاءات والندوات في جامعات العالم، حيث يستمد جزءاً من قيمته عبر اطلاع الآخر على تجربته واهتمامه بالتعرُّف إلى ثقافة بلاده، ولا يفاجأ بكمية طلبة الجامعات ممن اتخذوا من أعماله موضوعات للدراسة أو بحوث الماجستير والدكتوراه في مصر والمغرب وتركيا وإيران ولندن والولايات المتحدة وهولندا وكوريا والهند والصين، ولكنه يفاجأ من أعداد الطلبة في وطنه يحدثونه بخيبة: رفض الأستاذ الجامعي أن تكون أعمالك أنموذجاً للدراسة، وقال: «أين أنتم من طه حسين ونجيب محفوظ؟!».
كان يأخذ الأمر بحساسية في البدء، لأنه وفق النظام السائد كان عليه أن ينتمي، ولكنه تحرَّر من كل شيء إلا إيمانه بأنه كاتب وحسب، لا ينتمي إلى شيء إلا عالم الكتابة والخيال، لا ينشد مردوداً نظير كتاباته إلا حريته في القول. أن يكون قدرك أن تعيش كاتباً في وطنك الذي لا يراك يعني أن تخلص لعملك وأن تكتب من أجلك أنت، من أجل الإنسان فيك، وهذه حظوة يتمناها أي كاتب، أن يكون حرَّ نفسه لا يُمثل غيرها.
صديقي العزيز، كُن أنت، حُرّاً، مسؤولاً عن نفسك بآرائك، عوضاً عن أن تثقل كاهلك وأنت تتنكب مسؤولية أن تكون الكاتب الكويتي، المصري، السوري أو العراقي، وقُل ما تشاء بصفتك كاتباً و.. السلام.
وليتشظى وطنك في قلوب قرائك.