للبشر ممارسات أقرب إلى الجنون الثقافي، وأبرز مثال حي لذلك حكاية التعديل الثاني في الدستور الأميركي، وهو ينص على حق المواطن الأميركي في تملك السلاح وحمله، وهو في الأصل أمان حقوقي، ولكنه مع الزمن تحول لمصدر للموت في الشوارع والمدارس لمن يحمل السلاح كحق دستوري، ولكنه يمارسه إجرامياً، وهنا يقع المأزق بين ما هو حق شخصي وما هو ضرر اجتماعي، وتبعاً لتعريف روسو للحرية بأنها (أن تفعل كل ما لا يضير غيرك)، والضرر حد فاصل بين الحق والباطل غير أن أميركا بلد الحريات الأبرز صارت أيضاً بلد الميتات الأبرز اليوم، بسبب من حريتها التي تحولت لجنون ثقافي، وفي إحصاء لمحطة «ال سي إن إن» فإن قتلى السلاح الشخصي بلغوا خمسة آلاف شخص في عشرة أعوام بداية من 2001 بسبب السلاح المرخص، وهذا ضعف من مات بالإرهاب من الأميركيين خارجياً وداخلياً معاً، بما في ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وقد ضجت وتضج أميركا كلما حدثت حادثة قتل جماعي في مدرسة أو في تجمع عام، ومنها حادثة مدرسة فلوريدا عام 2018 التي فجرت غضباً كاسحاً ومسيرات طلابية في الولايات كلها وصلت إلى أسوار الكونجرس في واشنطون العاصمة، وبدت لبعض الوقت وكأنها ستتحول إلى تحرك جماهيري كاسح، ولكنها ذابت تدريجياً تحت أسوار المباني المنغلقة على مأزقها أمام قوة شركات صناعة السلاح وتجار المبيعات الذين تحولوا إلى قوة ضاغطة سياسياً من حيث سلطتهم على المال السياسي الداعم للمرشحين والقادر على تهديد وجود أي مرشح لدرجة لا يجرؤ سياسي متلهف على كرسيه أن يواجه ضغط تجار السلاح، وفي المقابل كان الرئيس ترامب قد وعد بضمان ما سماه الحق الدستوري لكل مواطن يحمل السلاح، وهي عبارة تحولت من حق دستوري إلى مصلحة مالية وسياسية، وإن تغلفت بغلاف الحقوقية إلا أنها تتحرك بدوافع مصلحية تلغي كل حس إنساني ولا تقيم اعتباراً للأموات من الأميركيين الذين يتم رشهم بالرصاص تحت حماية الدستور، ولكي يتخلص ترامب من المأزق بين صراخ الجماهير وضغط قوى جماعات تجار السلاح، فإنه خرج بحيلة تقول إن المدرسين لو كانوا مسلحين لما حدثت جريمة مدرسة فلوريدا، ولذا فالحل هو تسليح المعلمين في المدارس لحماية أنفسهم وحماية طلابهم، أي الحل بمزيد من تجارة السلاح، وهكذا يرتكب العقل البشري جنونه ويزيد من تورطه المنافي لمفهوم الحرية الفلسفي والحقوقي: أن تفعل كل ما لا يضير غيرك. ويموت خمسة آلاف بريء في عشر سنوات، وكم مات وسيموت من آلاف تلو آلاف، وكلهم ضحايا لجملة في دستور كان أصله لضمان الحقوق لولا أن البشر يمهرون في تحويل الحق إلى باطل.