تُبنى العلاقات بين البشر على مدى سنين طويلة، تخالها متينة قوية ومتماسكة، وتفاجئك حين تخور ضعيفة أمام رياح تهب عليها، فتلويها وتكسرها وتحملها معها بذكرياتها الحلوة والمرة إلى غير رجعة. «زهرة الخليج» سألت: هل العلاقات بين الناس، بهذه الهشاشة؟.. ومتى تصل بأصحابها إلى نقطة «اللا تسامُح»؟

يمد المحاسب طارق البهنساوي يده لتلاقي يد صديقه محمد، يصافحه ببرود ويلقي عليه تحية بالكاد تُسمع. يعرف الكل أنه ومحمد أبناء عم وصديقان منذ الطفولة، لم يفترقا يوماً بل بقي كل منهما ظلاً للآخر، ولو أن كليهما تزوج وبنى أسرة. تسأل طارق عن محمد فيجيب باقتضاب: «هو بصحة جيدة»، والجواب عينه يأتيك من محمد حين تسأله عن طارق، في حين أن الواقع لا يعكس إيجابية بين الطرفين. فهما لم يشاهَدا معاً منذ فترة لا بأس بها، مما يعني وجود خلاف حقيقي بين صديقَي العمر، وما برودة اللقاء وجفاء التحية إلا انعكاس لهذه الحقيقة. يتحفظ كل منهما عن ذكر ما الذي ألّب مشاعره ضد الآخر، ويخفيان ما آلت إليه علاقتهما، ولم تشفع لهما قربى ولا صداقة في إخفاء انزعاجهما من وجودهما في مكان واحد، لحضور مناسبة سعيدة لصديق مشترك. وتململ الطرفين من بعضهما البعض لافت إلى حد تبادُر سؤال إلى ذهن كل من يعرفهما، هل وصل بهما الأمر إلى نقطة «اللا تسامح»؟

بألف وجه ولسان

لا يختلف الحال مع مدرّسة اللغة العربية فاطمة محمد، التي تؤكد: «عرفت نجوى منذ أيام الجامعة، أي منذ 15 عاماً، كانت أقرب لي من أختي، ضحكت معها على أمور كثيرة وبكينا معاً في ظروف مزعجة، تبادلنا الأسرار وحملنا هموم بعضنا البعض، واليوم..». تغص فاطمة بكلماتها وتحاول إخفاء تأثرها وهي تتابع: «لم أعد أعرفها، ولم تعد صديقتي. انتهت علاقتنا». نسأل فاطمة عن السبب الذي يمكن أن يودي بعلاقة طيبة بين صديقتين إلى حتفها، فتعلق: «اكتشفت أنها كاذبة وبألف وجه ولسان. لطالما كانت هكذا وكنت المغفلة التي تأتمنها على أسرارها، وجدتُني مع شخص بشع من الداخل، يؤذيني مرة بعد مرة من دون أن يرف له جفن». وتختتم فاطمة محمد قائلة: «لم يعد قلبي يرتاح لها، ولم أعد أستطيع مسامحتها على أخطائها المتكررة بحقي».

كنت حائط صدٍّ عنه

لا يخفي المحاسب سائد عبد الله، تأثره الكبير جراء انقطاع علاقته بزميله جودت، لكنه يقول: «لا أنسى أن جودت هو من رشحني للعمل في ذات الشركة، حملتُ (جميله على رأسي)، وشاءت الصدف أن يتم تعيينه بعد فترة بسيطة مديراً، وكنت أكثر السعيدين بالخبر، حتى إنني طلبت أن أكون معه في القسم الذي يديره، وهذا ما كان». يواصل سائد حديثه بتأثر: «تغير جودت عليّ كثيراً، وخاصة بعد أن اكتشف أنني أمهر منه في جانب من المهنة، لكني لم أعِر الأمر اهتماماً، محتفظاً بتقديري الشخصي والمهني له، كونه كان سبباً في التحاقي بالعمل، وكنت حتى أدافع عنه في غيابه وكنت حائط صد عن أخطائه، وأصحح بعض الأخطاء من دون أن يعلم. وبعد فترة، كان من الطبيعي أن أتطور، لأنني كنت مجتهداً في عملي، وتم نقلي رئيساً لقسم آخر، بناء على طلب صاحب الشركة. ومن يومها وجودت لا يكلمني، إلا بشكل رسمي في الاجتماعات الدورية».

صورة جميلة

يلفت أستاذ علم الاجتماع الدكتور محمد المطوع، إلى أنه «لو كرر الصديق أخطاءه في حق صديقه مرات عديدة، قد يفضّل من وقع عليه هذا الفعل أن يقطع العلاقة، ليحتفظ بالصورة الجميلة لصديقه، قبل أن يتطور الحال إلى زعل دائم لا عودة عنه». ويتابع: «إلا أن التسامح يجب ألا يفسر على أنه ضعف وانكسار لأي طرف، بل يدل حقيقة على شخصية قوية وواثقة. وقد يكون من المفيد العمل بمقولة، (من آخذ صاحبه من أول زلة، خلاه الزمان من غير أصحاب)». ويتناول المطوع نظرة المجتمع إلى موضوع التسامح فيقول مختتماً: «لا يقبل المجتمع أن تكون صفة «اللا تسامح» جزءاً من شخصيته أو ظاهرة تتفشى بين أفراده. فمجتمعنا منفتح على أكثر من 200 ثقافة، والتفاعل فيما بينها قائم على الاحترام والقبول ومستمر بإيجابية وعلى أسس التسامح، هي حالة جميلة وصحية، وإن دلت على شيء فإنما تدل على أن مجتمعنا متسامح بالفعل».

تدريب على التسامح

يبني أستاذ التربية الدكتور محمد جاسم عكران، تعليقه على موضوع التسامح، على رأي عالم الـ«إنثروبولوجيا» البريطاني جيمس لوفلوك، الذي يرى الإنسان سفاحاً بطبعه، وُلدت معه غريزة الصراع وتظل مدفونة في جيناته الوراثية، ورأي الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، القائل (إن الإنسان هو مفترس طيب صار عنيفاً بالتدريج بسبب تأثير المجتمع فيه)، ليوضح: «تختلف نظرة العلماء إلى حقيقة الإنسان وكيفية تفاعله مع الآخرين، ورجحنا كفة من يقول إن الإنسان يولد بغريزة الصراع أو كفة من يقول العكس. أجد أن التربية لها دورها الأساسي في مسألة التسامح، لذا من واجب الأهل تدريب الولد على هذا الفعل منذ الصغر». يشرح د.عكران فيقول: «نعرف أن الطفل يكون متقوقعاً حول ذاته وغير متسامح في هذه الفترة من العمر، في مشاركة ألعابه أو أغراضه الخاصة مع آخرين حتى لو كانوا إخوته، وهنا يأتي دور الأهل لتدريبه بطريقة متكررة على مفهوم التسامح، ومساعدته على إعارة لعبته والتنازل عنها لفترة، وتدريبه أيضاً على إقامة علاقات مع غيره من الأطفال، كي لا يميز بين طفل وآخر ويكون مرتاحاً في جو متعدد الثقافات».
ويختتم عكران قائلاً: «المدرسة يمكنها أن تدرب الطفل على التسامح ومشاركة الآخرين، وتعلمه كيف يبذل جهداً في التعاون معهم، لأنه لو أصبح كبيراً وظل غير متسامح، سينعكس الأمر على شخصيته، وسيكون على هذه الصورة مع أسرته وفي وظيفته والمجتمع».

الظلم والقهر
يرى استشاري الطب النفسي الدكتور طلعت مطر، أنه: «إذا تعلق الأمر بالظلم الشديد والقهر، لا يعود الإنسان قادراً نفسياً على المسامحة، ومثال على ذلك أن يكون موظفاً أميناً ويُتهم بالإهمال أو الخيانة، أو يُطعن في شرفه وكرامته، كأن يرى خيانة الشريك له مع شخص آخر». يتابع: «ليس هناك دراسات علمية عن أي من الجنسين أكثر تسامحاً من الآخر أو العكس، ولكن تشير الملاحظات إلى أن المرأة من الصعب أن تسامح، ويصعب عليها أن تنسى الأذى بسهولة، ربما لإحساسها بضعفها في المجتمع، بينما يبدو الرجل أكثر تسامحاً لتمتعه بشبكة اجتماعية أوسع، تتيح له مجالاً أكبر للتنفيس عن نفسه». ويختتم مطر قائلاً: «يجب أن نتعلم كيف نسامح، وقد تكون البداية في التماس الأعذار للآخرين الذين أساؤوا إلينا، والشائع أن صاحب الشخصية القوية والمتمسك بالإيمان الديني والمتفائل، هو الأقوى على التسامح، وبالتالي كلما كان الشخص أكثر نجاحاً وإنجازاً في الحياة، كان أكثر تسامحاً».