تحدثت كثيراً عن هذه المرأة؛ لأنها صورة مختزلة لقهر الفنانة الموهوبة، في مواجهة ذكورة ظننّا خطأ أنها هُزمت؟ ماذا لو أعدنا كامي كلوديل التي انطفأت في النسيان الكلي، إلى الحياة من جديد؟ وهذه المرة بشكل مختلف عما تعودنا عليه، بالحديث عن مأساتها الداخلية التي دمرتها كلياً. ماذا ستروي لنا وهي النحاتة العظيمة التي غيرت في نظام النحت ومقاييسه العالمية التي كانت تعتمد عادة السيطرة والضخامة للإدهاش؟ مثل تلك التي تملأ اليوم القصور والحدائق، والمعابد والبيوت الكبيرة في أوروبا وآسيا، ولكن مع كامي أصبح التفصيل العميق في المنحوتة هو الأهم. يمكن لقطعة صغيرة جداً أن تختزل مأساة القهر كلها في ملامح تمثال، اختاره صاحبه أو صاحبته ليكون تعبيراً عن الظلم العام. مشكلة كامي كلوديل أنها عاشت في حضن رجل عظيم، هو النحات غوستاف رودان، الذي ساعدها على الظهور قبل أن يعمل على محوها وقتلها نهائياً كفاعلية فنية، بمحاصرتها كلياً لدرجة الاختناق واليأس. لنا أن نتساءل: كيف يمكن إعدام فنانة بتلك القيمة بقرار من رجل، وبتواطؤ الصمت الكلي للفنانين والمؤسسات الثقافية؟ صرختها الوحيدة التي بقيت لنا اليوم، هي رسائلها. ماذا فعلت أكثر من محاولتها سرقة نار بروميثيوس لتزرع في الطين والصلصال الميت بعض الروح والدفء؟ كل ما كان يحيط بها في البداية، كان يؤهلها لتكون فنانة من الطراز العالي. فقد بدأت كعاملة في ورشة النحات الفرنسي الكبير، غوستاف رودان، الذي كان كما زولا وبلزاك، في الحقل الأدبي، إلهاً صغيراً. كانت كامي كلوديل تنفذ سلسلة من أجزاء المنحوتات التي كان يطلبها منها، بالمقاييس التي يحددها لها سلفاً، ليقوم لاحقاً بتركيبها. نقاد متخصصون في أسلوب رودان، يقولون إن منحوتته المشهورة «القبلة» التي رفعته إلى السماء، كانت فيها لمسة وشاعرية كامي كلوديل واضحة وأساسية، لدرجة أن النقاد يؤكدون أن رودان سرق من كامي موهبتها، وهو ما ظلت توكده حتى وهي بمستشفى الأمراض العقلية. كامي كلوديل، لم تكن عاملة عادية، لكن فنانة ومبدعة، وعاشقة لمعلمها رودان، لدرجة أن غطت أنوثتها الفائضة على روز، التي كانت بمثابة زوجته، إذ أنجب منها أبناءه. وعد رودان عاملته وحبيبته كامي كلوديل بالزواج، لكن روابطه مع روز كانت أقوى، فانفصلت كامي عنه نهائياً، وهي في حالة كبيرة من اليأس والكآبة. بدأت تعمل لحسابها، بالخصوص بعد انهيار علاقتهما، وكان عليها أن تبرز موهبتها ولا تبقى تابعة له. أرادت أن تسترجع أنوثتها المبثوثة في أعمال كثيرة لرودان، وتُدْرجها في جهودها مباشرة. كانت تريد أن تضع حداً لمن سرق منها الأنوار وعذوبتها الفنية وجنودها، وهو ما أنكره رودان دائماً. لكن ملامحها الأنثوية التي صبغت منحوتاته، وهي تعمل في ورشته، تبين ذلك بوضوح. لكن من يسمع صرخة امرأة مجنونة؟ ظلت تشتكي إلى مختلف المؤسسات سرقة رودان لجهدها وعملها الفني، لكن لا أحد أولى ذلك أهمية. أكثر من ذلك، فقد حاصرها، فلم تعد تبيع أي قطعة فنية للمؤسسات الوطنية، الزبون الأساسي للفنانين وقتها. فقد اتفق رودان مع أم كامي كلوديل وأخيها الشاعر والدبلوماسي، وأدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، فمكثت هناك حتى الموت، بعد أن فشلت كل محاولات إنقاذها. فقد كان رودان السبب الرئيسي الذي يتخفى وراء مأساتها التي لم تمنحها أي فرصة لاستعادة جهودها وموهبتها. لا شاهد اليوم على مأساتها إلا رسائلها التي كتبتها له، التي تعبر عن حب جنوني تحول إلى كراهية، لعائلتها، أو للمسؤولين المشرفين على الفن، الذين تواطؤوا مع رودان، وأغمضوا عيونهم عن آلام كامي كلوديل. كان لرودان سلطة اجتماعية وفنية من الصعب تخطيها. وكان وراء إفلاسها الفني، فتوقفت نهائياً عن النحت حتى الموت. تنطبق عليها الآية القرآنية: وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قُتلت؟ حتى النخبة الثقافية القوية وقتها كانت عموماً بورجوازية وتقف بجانب مصالحها التي كان يجسدها غوستاف رودان. لم يقف أي منهم مع الحق ضد الظلم. منحوتاتها القليلة المتبقية من رحلتها الفنية، ترفعها اليوم إلى أعلى المراتب الفنية في النحت. ثم ماذا لو عادت كامي؟ لا أعتقد أنها ستجد اللغة الكافية للتعبير عن درجة الظلم الذي نزل عليها.