لا أصدّق أننا على مشارف عام جديد!
هل من يخبرني كيف مضى الوقت؟ ولماذا لم نعد نلمح منه إلا غبار قاطرته المسرعة. ما عاد في إمكاننا أن نحتسي الوقت تحت شجرة ياسمين، أو نرتشفه ذات سمر فوق سطح بيت على ضوء القمر، لم يعد الوقت فنجان قهوة أو كوب شاي، العولمة وضعت يدها حتى على الوقت، وحوّلته مشروباً غازياً نعبّه وقوفاً على عجل. لم يعد عربة جميلة تجرها الأحصنة، تتوقف بالقلب على ضفاف الأشواق، تفرش للحلم منديلاً على العشب، غدا مركبة فضائية تمضي بنا بسرعة الضوء، حيث لا مكان لخلوة شاعرية، وما من وشوشة إلا وتتقاسمها معنا أذن هاتفية، وعين غير مرئية.
كيف وفيروز لا تزال على قيد الحياة، تغيّر العالم في عقدين من الزمن إلى هذا الحد، حتى كأن تلك الحياة الشاعرية التي غنتها، والقصص الجميلة التي أدتها في مسرحياتها، لم توجد يوماً إلا في خيال الرحباني. ما حاجتنا اليوم إلى «بياع الخواتم» الذي كانت تنتظره صبايا الضيعة، من موسم لآخر عسى يأتيهن بخاتم خطوبة و«محبس» يحبسن به الحبيب. اليوم الخاتم كما الحبيب متوافران ومعروضان على الإنترنت.
أتكون كل الاختراعات التي حققها الإنسان قد حرمته من متعة العيش الهنيّ؟
قبل فترة، وضع ابني شريطاً لاصقاً غطى به كاميرا حاسوبي، وكاميرا هاتفي. وعاد مطمئناً إلى لوس أنجلوس، حيث ككل سكان أميركا يقيم محاطاً بالكاميرات. استسلمت لإلحاحه، حين أقنعني بأنّ مارك زوكربيرج قد غطى كاميرا حاسوبه ليحمي نفسه من القراصنة، والعيون التي قد تتلصص عليه. لكني قرأت بعد ذلك بأشهر، أنّ مارك نفسه، الذي لا تضاهي شطارته التكنولوجية إلا أميتي في هذا المجال، قد تعرّضت حساباته الرسمية إلى اختراق من قبل الهاكرز، الذين عثروا على «ثغرة» سمحت لهم بالدخول إلى 50 مليون حساب فيسبوك، والتجسس على أصحابها، من دون الحاجة إلى معرفة «الباسورد»!
لعلّ في هذا الأمر خلاصة ما وصلنا إليه، فقد انتقلنا من زمن «الثغر»، إلى عصر «الثغرة». إن كان الأوّل قد ظلّ لعصور حلم الشعراء ورحيق الشعر، فالثانية هي كابوس التكنولوجيا ومصيبتنا الجديدة.
كم يبدو بعيداً قول عنترة: «فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم»!
لي صديقة مولعة بتغيير هاتفها. قلت لها مازحة إنّ جوّالي يعود لسنوات عدة، وإنّني لو كنت رجلاً لما وثقت بامرأة تصبو إلى تجديد هاتفها كلّما طرح هاتف جديد في السوق.
ضحكت وقالت بلؤم: «أنت تحتفظين بالهاتف لتمتلكي الزمن العاطفي، ترفضين أن تلقي بزمن ما، ثمّ تطالبينني بالتخلّص من الذاكرة أليس كذلك؟».
قلت: «لقد غدت قرابتنا بالأجهزة تفوق قرابتنا بالأشخاص؛ لذا لا أفهم السرعة في التخلّص منها، في الماضي لم يكن أحد يلقي بشيء، اليوم أصبح من العار أن تحتفظ بشيء. لا بدّ من أن تغيّر سيارتك وأثاث بيتك وخاصّة هاتفك لتبدو طبيعيّاً وثريّاً، فأكبر عيب أن يشي هاتفك بقلة إمكانياتك».
ردّت: «هيك لبنان». فأجبتها: «بل هيك الزمان».