ما هو سرّ افتتانه بالكلمة، قراءة وكتابة؟
يتحدث عن علاقته بـ«الكلمة» مكتوبة، من دون أن يعرف سبباً واضحاً لذلك الشغف والوقع المحبب الذي تخلّفه في نفسه كلمة: كلمة!
كان صغيراً.. لا يزال ربّما.. كان أصغر.. كان طفلاً..
والكلمة هي اللعنة الأولى التي لازمته مذ تعلّم القراءة ومذ أمسك بالقلم يكتب، بعيداً عن فروضه المدرسية، أول مرّة. الكلمة المكتوبة وحدها جديرة بأن تكون كلمة، لأن الكلمة المنطوقة تموت فور ما تنفرج عنها الشفتان.
بالعودة، اليوم، إلى دفاتره القديمة، كلما اشتاق إلى ما كان عليه، يقرأ ما دوّنه الطفل الذي كانه، يؤمن بأنه ما خطّ الكلمات إلا خوفاً من النسيان، والنسيان موت، وهو لا يستطيع أن يهزم الموت إلا بالكلمة. يحرّر شهادة ميلاد لكل حدث مَرّ به. شهادات ثبوتية للذاكرة، للأيام إذا ما خانته ذاكرته المعطوبة. شهادة ميلاد لوفاة قريب.. سفر صديق.. أو لسعادة مؤقتة إثر زيارة شخص أحَب. ولأنه كان يخاف البوح كان يكتب الكلمات مثل تعويذات سحرية في دفتره، منزوياً في غرفته بعيداً، يعتب، يشكر أو يشتم أولئك الذين لا حول له ولا قول في الوصول إليهم، إيماناً بأن رسائله الخفية سوف تصل إلى أولئك الذين ما واجههم يوماً بما يشعر. وإن لم تصل، يكفيه أنه قد تحرر منها مع الكلمات التي خرجت منه كتابة، وأنه منح ذاكرته الصغيرة وجوداً أبديّاً. كان يخاف، ولا يزال.. يخاف أن يَنسى أو يُنسى.. ولهذا كان يخطّ الكلمات كما لو أنه ينقشها في حجر. الكلمة في دفاتره هي ذاكرته الرديفة، اللعنة المحبّبة التي نسجها، صغيراً، من خيوط خوفه وباتت مقرونة ببقائه. كان مؤمناً من دون أن يدري بأن الكلمة حياة، يموت هو وتبقى هي!
كبر، وكبرت حاجته للكتابة، خوفاً من ضياع شيء لا يدريه. يدوّن كل شيء، حتى باتت الكتابة عبئاً أعاق لسانه الذي بات غير قادر على التعبير عما يجول في خاطره بقدر الكتابة، ولأنه يكتب أكثر مما يقول، وجد نفسه في عزلة عن محيطه، يفقد الكثير من الأصدقاء، ويواجه عتب الأقارب. بات فعل الكتابة ذاته جزءاً أصيلاً من يومه، لا يستغرب إن وقعت عيناه اليوم، أثناء تصفّح دفاتره القديمة، على صفحة تخلو من الكلمات عدا عبارة واحدة أسفل تاريخ اليوم: «يوم عادي آخر، لا شيء يستحق الكتابة عنه!». كان الفتى يكتب اللا شيء، وكان يؤمن بأن اللا شيء يغدو أكثر جدوى بالكتابة عنه، وأن بعض الأيام يبدو مميزاً، لأنه باختصار.. مجرد يوم عادي منحته الكتابة حياة!