نحن يتامى الحبّ وثكالى الأوطان، من السهل لمن يريد أن «يصطاد» عربياً في شوارع الغربة اليوم أن يتعرّف إلينا، لنا سمات الهوان، يشي بنا التيه ونقص الحنان، وذعر اليتامى في غاب الحياة، إنّنا أبناء المصادفات، لا ندري أيّ مركب يحملنا، وأيّ موجة مُحسنة أو قاطع طريق ينتظرنا، وأيّ مصادفة سترمي بنا هنا أو هناك، قلوبنا في مهبّ الأمواج، ربما عثرت في بحار الحبّ العاتية على قبطان شهم ينقذها، وربّما صادفها قرصان من قراصنة القلوب، متنكّراً في زيّ عاشق، فسطا على ما في حوزتنا، وسرق شهوراً أو سنوات من أعمارنا، قبل أن يرفع الشراع مقلعاً نحو وجهة ثانية، تاركاً إيّانا في عرض بحر الندم، من دون سترة نجاة، في انتظار مركب ينتشلنا، ولا زورق يلوح في الأفق.
«لا تندهي ما في حدا»، فالبحر لا يحمل اليوم سوى الجثث، وزوارق من ورق، وقصص حبّ على شاشة هاتف ككلمات من زبد، يتمسّك العشّاق بقشّة وهمها، فلا تزيدهم في النهاية إلا غرقاً، دخلنا دوّامة الأهوال، ها نحن شعوب معلقة على أبواب القاطرات، ما عاد همّنا إنقاذ الوطن، كلٌّ منّا يريد إنقاذ نفسه، الكلّ يركض للحاق بفرصته الأخيرة، فقطار الهروب من الجحيم لا ينتظر.
هكذا، غدا للقطارات والطائرات والمراكب دور البطولة في قصص حبّنا، كلّ حلمنا أن يجمعنا بها القدر، وأن يباركنا بوليس الحدود حين تحطّ بنا في مرفأ أو مطار، فنعقد قراننا على بلاد خلف البحار، نُرزق منها بنين وبنات، يحملون هويّات أجنبيّة، ولا تفضحهم عروبة الجينات.
ماذا تنتظرون مني إذن وسط هذا الإعصار؟ كيف يبدع من هو متعلّق إلى القطار بيد، وبالثانية يكتب ليصف المشهد؟ مَن تارة يمرّ بمنظر جميل وتارة يمرّ بنفق، بينما الناس يصعدون وينزلون، ويتدافعون من حوله ليفوزوا بمقعد احتياطي للانتظار، يقعون في الحبّ حال الصعود، ويفترقون قبل محطّة الوصول! فعشق اليوم يدوم مسافة محطّة، وعليك أن تواسي العاشق المخدوع، وتقنع عاشقة تسافر من دون تذكرة عودة، بأنّ عليها النزول، وعليك أن تُحكم إغلاق النوافذ كي تمنع أخرى من الموت في حادث حبّ، وتنصح آخر بالتريّث وعدم تصديق الحبّ المستعجل الذي يلوّح له بمنديل الوعود، وفي النهاية، بين ذاك وذا، ستضيع جهودك سدى، ولا من يتّعظ، فلا أحد يدري إلى أين يمضي به قطار الجنون المزدحم بمن يحسبون أنفسهم عشّاقاً، وما أكثر العشّاق وما أقلّ العشق!
لا بدّ من وضع تنبيه جديد، من النوع الذي يوضع عادة في الحافلات لحثّ المسافر على ترك مقعده لامرأة حامل أو لراكب مسنّ، لافتة يكتب عليها مثلاً: «انتبه أيّها المسافر، قد يأتي الحبّ كرفيق مصادفة، ثمّ تُفاجأ به يلازمك، اترك له مقعداً شاغراً جوارك، كي يستدل عليك وسط الزحام، ذلك أنّه يصل عندما تكون مزدحماً بكلّ شيء عداه».
هكذا هو الحبّ، يأتي للذين لا وقت لديهم لاستقباله، يحضر للمنشغلين عنه لا للذين ينتظرونه، لا للمتهيّئين له، بل للذين أهملوا أنفسهم بعدما يئسوا من مجيئه، ولا شيء يحلو له أكثر من أن ينزل كصاعقة على ضحاياه، وهم في عزّ المصائب والحروب والأوبئة والكوارث، لذا تُعدّ ثنائية الحبّ والحرب أكثر ما يغذي الأدب، كلّ الأعمال الخالدة استندت إلى هاتين الحقيقتين، ذلك أنّ للحبّ قرابة بالموت،«الحب موت صغير» يقول ابن عربي، شيخ المتصوّفة، والإنسان في ذعره من الموت الكبير، يهرب إلى الموت الأصغر والأجمل، مراهناً على أبديّة العواطف في مواجهة أبديّة الفناء، فيقع في قبضة الحبّ!