قصة شيقة تلك التي حدثت في القرن السابع وبداية الثامن، في العصر الأموي، بين جميل بن عبد الله بن معمر العذري، وبثينة أو أم عبد الملك، بنت يحيى من بني ربيعة، كلاهما من قبيلة من إذا أحبوا ماتوا. في قصتهما كل ما في المرويات العشقية القديمة من جمال حكاية، وعظمة الحب، وتراجيديا رفض الأهل، ثم مأساة الفراق. ماذا لو كان الكثير مما رُوِيَ عن جميل وبثينة، رمز الحب العفيف، مجرد وهم مريح؟ سبق للكثير من النقاد العرب أن نفوا فكرة العفة كما طرحتها المؤسسة الاجتماعية المحافظة، وعوضوها بالحب الطبيعي بين عاشقَين. ليس هذا القصد من وراء السؤال. الأمر يتعلق هنا بمتخيل عشقي كثيراً ما رفض عربياً وألبس لباساً أخلاقياً. حب افتراضي ذهني، لا علاقة له بالأهواء الإنسانية الطبيعية. هل قصة جميل وبثينة مثلاً قصة حقيقية أم مجرد أسطورة حب متأتية من ثقافات متعالية أخرى كالفارسية والهندية والصينية القديمة، وحتى الرومانية وغيرها، التي دخلت في تفاعل مع الثقافة العربية؟ أستغرب مثلاً عندما أجد جملة كهذه تتكرر كثيراً في هذه القصص: رفض أهلها تزويجها لحبيبها، لكنهما ظلا يلتقيان سراً وينعمان بالحب؟ كلام مثل هذا جميل على الصعيد العاطفي والإنساني، لكنه في الواقع الموضوعي، يقود صاحبه، أو صاحبته إلى الموت الأكيد. المسألة ليست مجرد عواطف جياشة، ولكنها تتعلق بلقاءات سرية بين امرأة متزوجة وشاب عاشق حُرم من حبيبته؟ كيف تجتمع العفة، يعني غياب الحسي، باللقاءات السرية؟ أعرف سلفاً أن الحب حالة كلية تتبخر أمامها كل عوائق المنع الاجتماعي. والعفة الافتراضية ليست أكثر من تعبير روحي عن استحالة التواصل، الحب فوق المنع؛ لأنه مآل الإنسان الطبيعي، وجزء مهم من إنسانيته الباحثة عن اكتمالها العاطفي.
تبدأ القصة كما في كل قصص الحب العالمية، التي كلما قرأناها اليوم، تبيّن لنا كم أن قسوة البشر كبيرة ويمكن أن تصل إلى الأقاصي والجريمة، بدءاً من الأهل والنظام المجتمعي وانتهاء بالانتحار يأساً. امتاز جميل بكل الصفات الجميلة، الفروسية، الجمال والشهامة، قيم لا يمكن تصور غيابها عند العاشق النموذجي. أحَب بثينة، وظلا يلتقيان بعيداً عن الأعين زمناً طويلاً قبل أن يكشف أمرهما. تقدم لخطبتها، لكن أهلها رفضوه. هجاهم شعرياً، فهددوه بقطع لسانه، واشتكوه لمروان بن الحكم.
أتانيَ عن مروانَ بالغيبِ أنَّهُ      مُقيدٌ دَمي أو قاطعٌ مِن لسانيا
مما اضطره إلى التخفي. وكان يتنكر لزيارتها ولم يستسلم مطلقاً للأقدار التي فرضت عليه. كان مغامراً لدرجة أن عرّض حياته لمختلف المخاطر في الكثير من الأحيان. قالت ذات مرة عجوز عرفته متنكراً: أجميل؟ فقالت: والله لقد عرّضتنا ونفسك شراً فما جاء بك؟ قال: هذه الغول التي وراءك، وكان يقصد بثينة. فسألته عن سبب مجيئه، فقال: أردت مصر فجئت أودعكم وأسلم عليكم، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ليالٍ أنتظر أن أجد فرصة. على الرغم من عناده، قبِل في النهاية بالمنفى المصري. وظل معلقاً ببثينة حتى بدأت صحته تنهار شيئاً فشيئاً، بالخصوص بعدما يئس من رؤية حبيبته التي كانت قد تزوجت غيره. الحنين قاتل لأنه يحوّل الحبيب إلى غيمة، يراها ولا يلمسها.
لقد ذرَفَت عيني وطالَ سُفوحُها    وأصبحَ مِـن نفسـي سقيماً صحيحُها
ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمُت      يجاورُ في الموتى ضريحي ضريحُها
الحب لا يخبّأ. فقد شعرت بثينة بجرح عميق عندما وصلها خبر موته قهراً عليها، وكيف جعلت منه الحياة لا شيء، من فارس شهم إلى إنسان ضائع في حالة شبيهة بالجنون.
وإنّ سلوّي عن جميل لساعة      من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا، يا جميل بن معمر   إذا مــتَّ، بَأْســاء الحيــاة ولينـــــها
البيتان الوحيدان اللذان قالتهما بثينة في حياتها قبل أن تموت بعد أيام قلائل، الخبر كان قاسياً عليها، فلم تتحمله. ويُغلق كتاب جميل وبثينة على مأساة مزدوجة، وتبدأ الأسطورة.