في الفصل الأخير من رواية «طيور التاجي» يقول الروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل: «ورد في سِفر الأحوال أن الحزن سمة الكائن البشري، ومن أحسن تداوله عرف كيف يقيم صرح محبة».
سفر الأحوال هذا، لمن يبحث عنه في المكتبات، لا وجود له إلا في نفس إسماعيل، وفي حياة من كانت المحبة منهاجه وفلسفة حياته.
أكتب هذه الكلمات قبيل أمسية تأبين كبيرنا الذي علمنا سحر الكتابة، وأنا أرصد صرح المحبة الذي نشيِّده اليوم في غمرة حزننا إزاء فقدنا العظيم، لأننا لا نملك إلا أن نحب إسماعيل، وأن يحب واحدنا الآخر مثلما تعلمنا منه.
حالة غريبة تلك التي داهمتنا منذ سماع الخبر «إسماعيل عطاك عمره». كيف أصبحنا نحن تلاميذه وأصدقاءه ومجايليه، فجأةً، من دون ذلك الجدار الذي كنا نستند إليه، وكيف تغولت الوحشة في نفوسنا حتى راح واحدنا يهرب من نفسه ومن ذكرياته الهاجعة في نفسه مع الراحل، يلوذ بالآخرين ممن اقتربوا من الفقيد لعله باجتماعه بهم صامتاً يجد له ملجأ ومنجى من حقيقة تكذب الآمال، ولعل الأصدقاء يعون تماماً معنى الصمت في حضرة المصاب كما لو أننا نفضي بكل شيء. كنا أطفالاً بحق، وكنا، من دون أن نقرر، نمضي بتطبيق تعاليمه الواردة في سفر أحواله، بأن نحيل أحزاننا الغائرة في نفوسنا إلى صرح محبة عظيم.
من أين للحزن قدرته على المضي بك تجاوزاً لكل علاقاتك الملتبسة، وعوالق النفوس، وما يشبه العداوات مع الآخرين، وقت يعانق واحدكم الآخر. وقت تجتمع الأضداد، ويظهر الغائبون يرممون جسوراً أنهكتها قطيعة انشغالاتكم. يهاتف واحدكم الآخر، يكتفي بالسؤال: «أنت زين؟». ولأنك لا تحير جواباً تسأله بالمثل: «أنت زين؟». ترسل، مكسوراً، رسالة لصاحبك الكسير: «بالي عندك.. طمني عليك». يرد: «أحتاج إلى وقت لأستوعب.. الله يكون في عوننا معاً». وفي غمرة حالة الإنكار غير المتعمدة يردك اتصال: «أعرف أنك لا تطيق الجلوس بمفردك.. أنا موجود». يفاجئك صديق آخر: «أنا عند باب البيت.. تعال نطلع». وفي منتصف رحلة التيه الصامتة في السيارة تبادر صديقك: «نمر على فلانة نعزيها»، وأنت تدري أنك لا تقدم واجب العزاء بقدر ما تبحث عن فقيدك في عناق أحبته. تطوف في السيارة حول بيت إسماعيل فهد إسماعيل ومكتبه تتحرَّى عبور طيفه ملوحاً، ناسياً أنه يحيا في داخلك.
وفي غمرة حملك للآخر، وأنت محمول على كتف آخر، تردك رسالة ممن اختار أن يكون خصمك لسنوات طويلة، يبادر، بعد قطيعة، على غير عادة: «لن أعزي أحداً في إسماعيل، ولكن لأني أعرف ماذا كان يعني لك.. عظم الله أجرك».
أي صرح أقيم على لبنات أحزاننا إسماعيل؟ صرح محبة عظيم مثل الذي ورد في سفر أحوالك وأنت الذي تُعلِّمنا حَيّاً و.. حيّاً. لعلَّ هذا فصل جديد، في رواية يكتبها الغيب، فصل نمضيه مع ذكراك من دونك، لا ندري ماذا نقول فيه، وأنت الذي تقول، أيضاً، في سفر الأحوال: «إذا ما بلغ الكلام منتهاه آن أوان ما يسمى بالقول الفصل.. هذا الفصل؛ لا حول له ولا قول».
نم قرير العين أبا فهد..
فقد تعلَّمنا الدَّرس جيِّداً..