أفتقد قلم الرصاص المدرسي الذي بطرفه ممحاة، كان يخفّف من ذعري حين أكتب، لعلمي أنّ ما أخطّه قابل للمحو، وأنّني في أداة واحدة أملك اختيارين.
تمنّيت لو أنّ الممحاة أداة من أدوات الحياة، لا من عدّة الكتابة، كي نمحو بها ما ندمنا على فعله، في نَصّ حياتنا المليء بالحماقات.أليس هناك من طريقة، تمكننا من مسح سذاجة أخطائنا؟ نريد زرّاً نضغط عليه فنُعيد شاشة حياتنا بيضاء، فلا نُشهد أحداً على ضعفنا أو جنوننا، وزرّاً لمسح ما بُحنا به وكان يجب أن نحتفظ به لأنفسنا، ما قلناه للشخص الخطأ، وما أخطأنا حين رفعنا به ثناءً من لم يكن يستحق مدحنا. نُطالب بحقنا البشري في الخطأ وفي التصحيح، وحقنا التكنولوجي في الحذف وإعادة كتابة نَصّ حياتنا. نطالب في هذا المسرح الكبير الذي نقف عليه من دون أن نكون مهيّئين لأدوارنا، بحق الممثلين في بروفة تسبق العرض، كي نخطئ ما شاء لنا المشهد، ونستعدّ لتقمّص شخصيّات يقتضيها الظرف، ونتمرّن على التمثيل قبل الخروج إلى الجمهور، كي لا يكتشف الآخرون كم نحن سُذّج، وصادقون، فيشرعوا في التنكيل بما كان جميلاً وبريئاً فينا!
لا بدّ في كلّ قصّة حب، أن تكون لنا بروفة نفترق فيها قبل أن نلتقي، كي لا نشقى إن بعد اللقاء افترقنا.
لم يدر الإنسان أين يواري جثمان الذاكرة، فاخترع القصائد والقصص والروايات لتكون مقبرة للكلمات، ثم وقع في كمينها.
كبرى الفجائع موت الكلمات التي وثقنا بها وعشنا عليها، لكن لا أحد عند موتها يدعو لنا بالصبر والسلوان، أو يعزّينا فيها لاعتقاده بأنها مجرد كلمات!
تلك الكلمات التي ماتت في حوادث طرقات الحب، التي لا إشارات فيها، ولا أضواء نستدل بها في تيه العواطف، الكلمات القتيلة، وتلك الثكلى النازفة، التي فقدت حبيباً عقدت عليه شفهياً قرانها، واليتيمة التي تخلى عنها عاشقان سبق أن وهباها الحياة، الكلمات اللئيمة التي تعلق بتلابيب الذاكرة ولا مجال لنسيانها، الكلمات الضائعة في قسم المفقودات ولا أحد يدري من أصحابها، ومن ذا الذي وعد بها حبيباً ونسيها في أذنه، الكلمات الكاذبة التي ماتت مشنوقةً بحبل أكاذيبها أجيال من العشاق، والخجولة التي لن يسمع صوتها أحد، على الرغم من أنها كانت الأصدق، الكلمات الوديعة كنسمة، وتلك الأكثر جسارة، التي لا نسب لها لكن ستنتشر كوباء،
الكلمات التي تشبهنا، وتلك التي تشوّهنا، التي تكثر من الزينة، وتلك الظنينة الرصينة، تلك الثرثارة، والأخرى الحذرة المكتظة بأسرارها.
ثمّ، هناك تلك الكلمة الصفعة التي نستيقظ على دويّها، والكلمة الكمين التي نقع مغمضي العينين فيها، الكلمة التي سنصبح لها عبيداً لأنّنا بحنا بها، وتلك الكلمة السرّ التي سنحتفظ بها وستموت معنا، وتلك التي لفظناها وأودت بنا، والتي أضعنا فرصة قولها، فمنحناها فرصة ألا تفارقنا حسرتها.
الكلمة التي دسّها في تفاحة حبّنا حاسد ما فتسممنا بها، والكلمة النصيحة التي وشوشها أحدهم في آذاننا فهبّت لنجدتنا، وتلك التي نودّ لو منحتنا الحياة فرصة أن نقولها لذلك الذي لم يمنحنا فرصة قولها، لكنّه غادرنا، غير متوقع أن يغدر به الرحيل!
هل يعرف من لم يتوقع الرحيل باكراً أنّ الكلمات لا تنتظر؟!
إنّ كلمات الحب لا تغفر لاثنين: من يحتفظ بها عن مكابرة أو لؤم، وذاك الذي عن ظلم لم يمنح الآخر فرصة أن يقولها!