ليس كمثل الفنون ما له قدرة على التأليف بين قلوب البشر، كل البشر.
تبدو العبارة «كليشيه» تلوكه الألسن في كل مناسبة، ولكن بعض الكليشيهات يستند إلى واقع، وكون العبارة مجرد كلمات مستهلكة فإن ذلك لا يقلل من حقيقتها. أكتب هذه الكلمات وأنا ابن تجربة أرصدها مذ كنت في سنوات المراهقة، وتمسني بشكل مباشر. أتذكر في منتصف التسعينات، وفي ذروة الخصومة الكويتية العراقية على المستويَين القيادي والشعبي إزاء الاحتلال، ولسنوات طويلة بعد التحرير، كنت أتوقف عند أعداد الكويتيين الذين يقطعون تذاكر السفر إلى دبي لمجرد حضور حفل غنائي للعراقي كاظم الساهر الممنوع في الكويت. وفي الوقت نفسه، في الأردن، كنت أرصد العراقيين، تغص بهم مدرجات مسرح جرش ينصتون إلى عبدالله الرويشد الكويتي المستحيلة زيارته إلى العراق، وقتَ ترتفع أعلام البلدين في المدرجات إلى جوار بعضها كما لا تجتمع في أي مكان آخر. وفي ذلك الزمن أيضاً، لم يلتفت كلا الجمهورَين إلى التباس هوية الفنانة الراحلة رباب، عراقية المولد كويتية المنشأ، واتفق كلا الفريقين على أنها مطربته الأثيرة بصرف النظر عن هويتها، وظل عشاق فنها من الكويتيين والعراقيين يتوقون إلى عودتها إلى الساحة الفنية بعد انقطاع دام سنوات.
أتذكر أيضاً أنني، بصفتي كويتياً، لم أكن أجتمع وجاري الشمالي في أي مناسبة عدا قراءة المنتج العراقي، وتلك اللقاءات العابرة في مسارح أوروبا ومتاحفها، ومعارض الفن التشكيلي التي تجمع أطيافاً مختلفة من البشر تقصد الجمال، من بينهم مثقفون من عراقيي المهجر وسياح كويتيون، يجتمع هذا وذاك حول لوحة فنية وقت نسمع أخبار المشاجرات بين الضّدين في شوارع أوروبا وأسواقها أو ربما حاناتها، في ذروة التراشق الإعلامي بين البلدين. في المعرض الفني يشترك كلاهما بانتصاره لنزعته الجمالية، يتبادلان بعض الإطراءات، وينصرفان بسلام. وعندما كنت في ذروة حساسيتي إزاء كل ما يجيء من العراق، لم أكن لأنصرف عن إطالة النظر في لوحة تشكيلية تصوِّر نخلات عراقية، وربما اقتنائها، وكنت أحن إلى أغنيات عراقية تراثية شكلت جزءًا من ذاكرة تلفزيون الكويت وقت كنت طفلاً، وكان نتاج الجواهري والتكرلي والرصافي وآخرين من الأسماء العراقية على رأس قراءاتي رغم كل ما كان عالقاً في نفسي قبيل سنوات القطيعة.أتلفت حولي اليوم أترصد صنوف الخطابات، سياسية ودينية في الإعلام، ولا أجد من بينها ما يجمع بقدر ما يحققه الخطاب الفني غير المؤدلج، فن من أجل الفن، من أجل متعة حسية خالصة تقرّب الإنسان إلى جوهره، ذلك الجوهر المغمور تحت طبقات من التصنيفات البغيضة.
ماذا لو استثمرنا في الفنون والآداب من أجل الإنسان عوضاً عن الانتصار لفهم مغلوط لوطنية زائفة يعتقد البعض أنها لا تتحقق إلا بنفي الآخر والتقليل من شأنه؟ وخطابات بعض رجال الدين في الإعلام وخُطب المساجد التي تفتح أبواب جهنم على كل مختلف. خطابات لم تسهم يوماً إلا في تأجيج الكراهية بين أبناء طائفة وأخرى، ودين وآخر وهوية وأخرى.
أنا لا أملك أداة تعبيرية إلا قلمي، ولست أؤمن إلا بالفن سبيلاً للخروج من هذا العالم بأقل قدر من الخسائر، في وقت صار فيه بعض السياسيين ورجال الدين يقتات ويحقق المكاسب نظير فُرقتنا.
نحن لم ندرك واقعنا المليء بالكراهية والقبح إلا بسبب انصرافنا عما يقربنا إلينا، وبسبب تمجيدنا لما يبعد واحدنا عن الآخر، واهمين بأنه انتصار للذات. فالمجد للموسيقى والرواية، للوحة التشكيلية والمسرح، للشعر والسينما.. المجد للفن.