ثم ماذا لو فكرنا قليلاً في أول تجربة حب إنسانية بين مخلوقين ولدا ليتحابا رغم المعصية؟ ألم يكونا هما أول من خط طريقاً للحب بقسوته ومنافيه، وجماله الساحر أيضاً؟ شكراً لهما لأنهما استطاعا أن يجعلانا نقنع أنفسنا بأن الحب ممكن حتى ولو الظرف المستحيل يتخطى كل الإرادات المفروضة عليه. وجودهما الباهر بدأ من تلك اللحظة التي يصعب تصورها وهما يستعدان للمغادرة باتجاه منفى، اسمه الأرض. لا فكرة لهما عنها. سيُدحرج كل واحد منهما في مكان غير معلوم، وعليهما أن يدركا بعضهما أو يموتا في الخلاء الموحش. لا يملكان شيئاً سوى الحب. قصة في عمق التراجيديا. كان عليهما تجاوز حالة العدم لتمجيد الحب، واستعمال كل حواسهما الباطنية الحية ليعثرا على بعضهما. الخطأ جعلهما مثلنا، في الضعف والقوة، واختبار الحب داخل عالم شديد الاتساع. فقد اقتربا من الشجرة الممنوعة التي نهاهما الله عنها: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة/ 35) إلى أن جاء الشيطان فكان فعله شديد القسوة. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا وَقال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَة إلاَّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أو تكونا من الخالدين} (الأعراف/ 20). لهذا كانت حادثة الخروج فظيعة. لا زاد لهما إلا ذاكرة جريحة كانت سبباً في الطرد. كل واحد في مكان. أول منفى في الوجود البشري، على الكرة الأرضية. لم تكن الأمكنة والمسافات الفاصلة بينهما إلا اختباراً لقوة الحب الذي نزلا به نحو الأرض. ليصبح الحب بعد ذلك، ليس حالة إنسانية فحسب، بل حالة وجودية.
وقد سجلت الأديان السماوية هذا الحدث بالكثير من الحكمة والوضوح. في القرآن الكريم: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (سورة طه/ 122) لا منقذ في الأرض الموحشة إلا الحب. الحب هو المسلك وهو الخلاص. لنا أن نتخيل الأرض واتساعها؟ يكاد الأمر يكون مستحيلاً لولا الحكمة المتخفية وراء ذلك: الحب الكبير، لا يعترف بالحواجز. يمكننا أيضاً أن نتخيل حواء وآدم يتيهان في المفاوز الصحراوية، فيسير كل واحد في الاتجاه المعاكس للآخر، بحثاً عنه. لا أمل في اللقاء. ولأن للحب حدساً ورائحة وحواس، فقد عثرا على بعضهما في اللحظة التي تسبق اليأس بقليل. المخيال الشعبي، ونظراً إلى التصاقه بالأمكنة التي يعرفها، لم يذهب بعيداً في الأرض وخرائطها، ولم يختر من الأرض إلا مساحة محدودة يستطيع الكائن البشري أن يدركها.
تقول بعض المرويات العربية القديمة: إن آدم نزل في الهند، بينما وجدت حواء نفسها في جدّة مجردة من كل شيء إلا من يقين العاشقة. ويقال: إن آدم ظل يبحث عن حواء حتى عثر عليها عند جبل عرفات، حيث كانت تنتظر وصوله. تتبعت كل تحركاته بحواسها العميقة، ثم استكانت تنتظره، كما في الأساطير اليونانية القديمة، بنيلوب. المكان المشترك، هو الدالة الأساسية للحياة والاستمرار. درس في الحب. لا الذاكرة الصعبة تمنع، ولا الخوف من الفيافي، لا ذاكرة الخطأ الثقيلة. ولا حتى الاتساع المرعب للأرض. كل شيء يستقيم عندما يكون الإيمان بالحب قوياً. كان في إمكان كل منهما أن يظل رهين ماضي الجنة، ويموت حزناً بسبب الوحدة والفقدان. الحكمة العظيمة شاءت ألا يستسلم الإنسان للأقدار القاسية كيفما كانت. ما دام الحب موجوداً وقوياً، أمل اللقاء ليس فقط ممكناً ولكن أكيد. لا خيار، فكلاهما سكن للآخر كما في المرويات الدينية. في الحديث النبوي الشريف، إن آدم حينما دخل الجنة استوحش وحدته. شعر بأنه محتاج لمن يعطي الحياة معنى. سمعته الملائكة. فبينما هو نائم خلق الله من ضلعه حواء فاستيقظ، فرآها بجواره. قال: من أنتِ؟ قالت: امرأة. قال: ما اسمك؟ قالت: حواء. قال: ولم خلقتِ؟ قالت: لتسكن إليّ. وهو يتقاطع مع القرآن الكريم. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف/ 189) من اللحظة الرمزية بدأ مصير الإنسان الداخلي، يُخط. لا خيار إما موت العزلة، أو الانتصار للحياة. في البدء لم تكن الضغينة، كان الحب.