مرّ الخريف ولم يتعرف علينا
فلا تتأخر
أخشى مطراً قد يفاجئنا
ونحن تحت مظلة حب آخر

أصادق الخريف البحري على «الشاطئ اللازوردي»، أراقب مدينة كان حين تتوقف عن التمثيل قليلاً، وتمسح مساحيقها، أتأمل أسى الأمكنة وهي تفارق أحبتها، والطبيعة وهي تخلع مباهجها، والمراكب وهي تركن في مرافئها انتظاراً لمواسم الإبحار الصاخبة، وذاك الفنار البحري المقابل لشرفتي، وهو يعكس ليلاً ضوءه على سطح الماء في ليلة ماطرة، كامرأة تبكي ويصعب مواساتها، وحدها النوارس لم تغيّر مزاجها، لا زالت تملأ السماء بزعيقها، تفرد أحياناً جناحيها الكبيرين، وتنزل من عليائها لتنقض على سمكة.
على الرغم من كآبته المستترة، سعيدة أنا برفقة الخريف، إنه لي وحدي، ففي كلّ الفصول ما انتظرت سواه. لطالما غافلت الصيف، وواعدته سراً، خنت كل الفصول معه؛ لأنني أشبهه، أو لأن «لا يشبهني إلا الخريف» حسب قول نزار «لم يكن الربيع صديقي في يوم من الأيام، ولا تحمست لطبقات الطلاء الأحمر والأزرق التي يضعها على وجهه، ولا للأشجار التي تقلد راقصات الـ(فولى بيرجير)، الخريف وحده هو الذي يشبهني». لعلها حالة شعرية، ثمة في أعماقي ركن داخلي لا يتوقف فيه المطر، حتى وأنا في ثيابي الصيفية، أفتح مظلة الكلمات، لأحتمي من زخاته، أجلس للكتابة، ولا أغادر البيت إلا قليلاً؛ لاعتقادي أن السماء تطابق نشرتي الجوية، بينما من شرفتي أرى الجميع يحتفون بمباهج البحر.
البحر حبيبنا، لكن الخريف يشبهنا، لا نحتاج معه إلى التأنق، فهو لن يدقق في تفاصيلنا، ولن يسخر من أحزاننا الموسمية، لأنه يدرك منطق الفصول، إنه يستضيف الريح والمطر والغيوم، لا يخفي عنا نواياه، ولا يتستر على ظلم الشتاء حين يقرأ لنا طالع الفصل القادم، لذا، هو يريحنا من زيف البهجة، يخلع عنا أوراق الماضي الصفراء، ويعدنا بعد موسمين بالضبط، بأوراق خضراء جديدة، فنسعد لأنه دائماً يصدق وعده، على الرغم من علمنا أن تلك الأوراق ستصفرّ أيضاً وتتساقط ذات خريف آخر.
كم من قصائد كتبها الشعراء وهم يمشون فوق سجاد الأوراق الصفراء، المتساقطة من الأشجار تساقط الأحبة من شجرة القلب العارية بعد الفقدان، كم جلسوا وحيدين على مقاعد الفراق في حدائق الخريف الموحشة، لحظة مؤاخاة الحزن بين الإنسان والطبيعة.
ما من شاعر إلا وصادق الخريف. جاك بريفير، أهدى الخريف واحدة من أجمل قصائد الشعر الفرنسي «الأوراق الميتة» التي غدت أغنية عالمية، تخليداً لأوراق الأشجار التي تنتهي أرضاً، وتكنس وتجمع في الحدائق، كما تجمع الذكريات والأمنيات ودموع العشاق.
وهناك تلك القصيدة الشهيرة، التي يحفظها كل التلاميذ في المدارس الفرنسية؛ بسبب الإيقاع الموسيقي لأبياتها، المطابق لوصف هطول الأمطار، الشبيه بعزف الكمنجات الحزينة، إنها قصيدة بول فرلين «النحيب الطويل لكمنجات الخريف، تهدهد قلبي برتابتها الواهنة»، لم يدرِ شاعرها أن البيتين سيكونان شيفرة للحلفاء في الحرب العالمية، وستبثها إذاعة «بي.بي.سي» البريطانية، إشارة إلى أن الإنزال العسكري سيكون في النورماندي، وبأن المقاومة الفرنسية سوف تتلقى إشارة بدء الهجوم عند سماعها البيتين، غير أن الجواسيس الألمان استطاعوا التوصل إلى فك الرسالة، فيبدو أن الجميع كان يحب الشعر آنذاك!