هذا زمن الوصفات الجاهزة: كيف تصبح ثريّاً؟ كيف تغدو سعيداً؟ كيف تتقن الطبخ؟ كيف تتعلّم الإنجليزية؟ كيف تقوّي جهاز مناعتك؟ كيف تدير وقتك؟ كيف تفوز بقلب حبيبتك؟ كيف تختار وجهتك، وتوضّب حقيبة ذاكرتك؟ كيف تكون شخصاً محبوباً؟ كيف تكسب جبالاً من الحسنات في دقائق، وتخسر كيلوجرامات من الدهون في أسبوع؟ كيف تكسب المزيد من الأصدقاء في حسابك؟ وكيف تستعدّ لآخرتك ويوم حسابك؟ وكيف تغدو خبيراً في شؤون القلب وشجونه، وتقلّباته وجنونه، ولا تبكي ولا تشقى بعد اليوم بسبب أحد؟
لا أعرف شيئاً من كلّ ما سبق، لأنّني لم أملك يوماً صبر قراءة وصفة إلى النهاية، حتى لو كانت وصفة دواء. فالقليل الذي تعلّمته علّمتني إيّاه الحياة، بثمن أغلى من سعر كتابٍ، لكوني قضيت جلّ عمري في تأمّل عجائبها، غير مصدّقة مفاجآتها.وما زلت، برغم خيباتي، أثق بالبشر. لكنّني حفظت الدرس الأهمّ: لا شيء يستحق الحزن، فثمّة دائماً أمر في علم الغيب، لا ندري به بعد، سيأتي في الوقت المناسب، لمواساتنا. لكنّنا قبل ذلك سنكون قد بكينا كثيراً، وفتحنا مجالس عزاء، وأعلنّا الحداد، وأخذنا العالم مأخذ الجد، لأنّ أحدهم وعدنا بأحلام أبديّة، ثمّ مضى إلى الأبد.
صدمة بعد صدمة نبلغ سنّ الحكمة. نكتشف أنّ قليلين هم الذين يستحقون حزننا عليهم، وقليلة هي الأشياء التي يشكّل فقدانها خسارة فادحة لنا، وأنّنا غالباً لا نخسر في قصص الحبّ سوى أوهامنا. متأخّرين نتعلّم ما هو الأهم. في الحياة نتعلّم من جيوبنا، وفي الحبّ من قلوبنا، ثمّ ينتهي بنا الأمر إلى أن نقول «كفى» لأنّ كفّاً من الحياة أيقظتنا.
لست هنا لأنّني أمتلك وصفة أو أجوبة، بل لأنّني كاتبة، فالكتابة هي ما أتقنه حقاً. لذا، على مدى عمر، كتبت كثيراً عن العواطف في تضادّها، وفي ذهابها وإيابها، عن علوّ الأحاسيس وانهياراتها، عن النفس البشرية وتناقضاتها بين واجب الحكمة ونوازع الأهواء، عن تلك الأسهم النارية التي ترافق ميلاد المشاعر، وعن انطفاء حرائق اللهفة، ورماد النهايات وموت الكلمات، واحتضار الأمل على مرأى من الأمنيات.
أصبت غالباً وحدث أن أخطأت، وما زلت أتأمّل في دهاليز النفس البشرية ومتاهاتها. فللكاتب واجب تأمّلي تجاه المشاعر، ما دامت العاطفة هي التي تحكم الناس في الحياة، وتحرّك الأبطال في الروايات، وهي التي، بمنطقها المجنون، تحكم العالم. أما قالت الكاتبة جوانا ترولوب: «مأساة العالم هي أنّ الرجال يحبّون النساء، والنساء يحببن الأطفال، والأطفال يحبّون القطط»؟
ربّما كان عليها أن تضيف إلى حبّ الأطفال للقطط، حبّ الصينيّين أيضاً لها، حدّ مطاردتهم إيّاها أينما وُجدت، لتنتهي طبقاً على موائدهم!
ذلك أنّه في الفرق بين من يحبّ القطط ليدللها، ومن يحبّها ليلتهمها، تكمن مأساة العالم الحقيقية. فليس المهمّ من يحبّ من.. بل لماذا هو يحبّه؟ أدركنا هذا بعد أن دفعنا غالياً، أفراداً وشعوباً، ثمن غبائنا العاطفي. فكم من الأمم أحبّتنا كذباً وبهتاناً، ونهباً وإجراماً، حتى ما عدنا نصدّق اليوم من يقول إنّه يحبّنا لوجه الحبّ!
أصبحنا نعيش ذعر العواطف، ولنا سوء ظنّ بالمشاعر. نخشى إن نلنا شيئاً أن ينال منّا، وإن أحببنا أحداً أن نكون له وليمة أو غنيمة.
باختصار، نحن يتامى الحبّ.. وثكالى الأوطان.
(من مقدمة كتاب «شهيّاً كفراق» الذي سيصدر قريباً)