على الرغم من تخطِّيه حاجز الـ80 عاماً، إلا أن ذاكرة بيرج ترزيان، أحد أكبر مُعمِّري الأرمن في مصر، لم تخن حبَّه لوطنه، إذ سجل ما شهده بأم عينيه في كتابه «رُؤى أرمنيَّة مصريَّة في التَّاريخ والسِّياسة والتُّراث». التقته مجلة «زهرة الخليج» في حديث عن ذكرياته، فكان معه هذا الحوار.

بطاقة تعريف

عن ولادته وبداية حياته، يقول بيرج ترزيان: «وُلِدتُ لأبوين أرمنيين عاشا في إقليم (قليقيا) الواقع جنوب الأناضول على السَّواحل الجنوبية الشَّرقية لتركيا، وهى مدينة احتلَّها الفرنسيون ومنحوها للأتراك، وعقب اجتياحها من الجيوش التركية بالكامل هاجر أهلي مع من هاجروا إلى مصر، في رحلة شابتها المشقَّة وعناء السَّفر سيراً على الأقدام قاطعين آلاف الكيلومترات عبر دول عدَّة من تركيا إلى سوريا ولبنان، مروراً بفلسطين، حتى وصلوا إلى قاهرة المعزِّ.. أمَّا أنا فولدتُ عام 1938 في مصر، وها أنا ذا أبلغ عامي الثَّمانين، وما زالت القاهرة حاضنةً لي، فيها تعلَّمتُ، وبها عملتُ، وفيها شبتُ، وكانت بداية حياتي العملية في أحد البنوك، قبل أن أُؤسِّس مطبعتي الخاصَّة، والتي حولتها إلى شركة مصرية مُساهمة بعدما توسَّعت وزاد إنتاجها، وتقلَّدت مناصب عدة، أبرزها الرئاسة الشرفية لجمعية القاهرة الخيرية الأرمنيَّة، والرئاسة الفخرية للمجلس الإقليمي للاتحاد الخيري الأرمني العام، ورئاسة المجلس الإقليمي للاتحاد الخيري الأرمني سابقاً، ورئاسة مجلس إدارة بطريركية الأرمن الأرثوذكس، وأُجيد الكتابة والحديث باللغتين الأرمنية، والعربية بطلاقة. هذا بخلاف منحي أوسمة وشهادات تقدير من جهات رسمية عديدة أهمها وسام من رئيس جمهورية أرمينيا ووسام آخر من البطريرك الأعلى جاثليق عموم الأرمن في أرمينيا. أما في مجال التأليف والكتابة فصدر لي كتابان في التوثيق والتاريخ، وعشرة كتيبات في الشؤون الأرمنية وقمت برئاسة تحرير المجلة ربع السنوية لجمعية القاهرة الخيرية الأرمنية العامة، كما أعد أحد كتاب مجلتي «أريف» و«أريك» الأرمنيتين الناطقتين باللغة العربية».

الأرمنيون واليهود

يرفض المُعمِّر الأرمني الأكبر التشبيهات التي يُطلقها البعض على الأرمنيين بأنهم مثل اليهود، حيث إن الفئتين كان الشَّتات عاملاً مُشتركاً بينهما، فيبين: «نحن أصحاب أرض أُخرجنا من ديارنا بعدما عشنا فيها 3000 عام، وفقدنا الجزء الأكبر من أراضي وطننا، كما لم يعترف مقترفو الإبادة بجريمتهم حتى اليوم، ولم نحصل على أي تعويض عن خسائرنا المادية والمعنوية، كما أثَّرنا في الشرق الأوسط وأثَّر فينا. عكس اليهود الذين لم يكن لهم أرض ولا وطن، بل احتلُّوا أوطان شعوب أخرى».
يرى بيرج أن عودة الشعب الأرميني إلى أرضه الأولى تعدُّ «حلماً وطنيّاً»، ويُشير إلى أن مساحة الدولة الأرمينية الحالية لا تُساوي عُشر المساحة الحقيقية الكلية التي قسَّمها الاستعمار، ومنحها للأتراك، إلا أن هناك ما يقرب من مليون ونصف المليون أرمني ما زالوا مُقيمين على أراضيهم التي ضمَّتها الدولة العثمانية سابقاً، واعتنقوا الإسلام، إلا أنهم ظلُّوا مُنتمين إلى مجتمعهم الأرمني المغلق، يتزوَّجون فيما بينهم، ويلتقون ويجتمعون ويتمسَّكون بهويَّتهم الأرمينيَّة.

الأرمنيون المصريون

بنظرات باسمة يقول العجوز ذو الملامح البيضاء التي تشوبها الحُمرة: «جئنا إلى مصر لاجئين هاربين من الجحيم، فأكرمتنا مصر وشعبها، وتأقلمنا على العيش فيها، وأصبحنا جزءاً من شعبها العظيم، وحصلنا على الجنسية المصرية، وصرنا مُواطنين لنا ما لهم من حقوق، وعلينا ما عليهم من واجبات، ونعمل على رفعتها وتقدمها وازدهارها، كما أسهمنا في نهضتها الحديثة، وتمثَّل ذلك في عصرين ذهبيين؛ الأوَّل كان في عهد أمير الإسلام الأرميني بدر الدين الجمالي الذي عُيِّن والياً على مصر في العهد الفاطمي وقتما كانت الشدة المستنصريَّة، والتي ضربت الفوضى في مصر، فجاء إلى القاهرة ويُرافقه 30 ألف جندي أرمني أعادوا الاستقرار للعاصمة. والعصر الثاني هو عهد محمد علي باشا مؤسِّس مصر الحديثة، حيث عيَّن بوغوص بك يوسفيان ناظراً للتجارة والأمور الإفرنجية، وائتمنه على أوراق أوامره الملكية المذيَّلة بتوقعيه يستخدمها حين تكون هناك حاجة لذلك في ظل انشغال الوالي بحروبه في جنوب مصر. وعقب ثورة 1952 عاملت كل الحكومات الأرمنيين مُعاملة جيِّدة نظراً لكونهم شعباً معطاءً يعمل بجدٍّ وإنتاجيةٍ عاليةٍ».

الحياة الاجتماعيَّة

يقول بيرج: «عائلتُنا في مصر لا تختلف عن أي أسر حول العالم، فنحن ننتمي لعائلات تحرص على الاهتمام بالقيم والمبادئ وزرعها بين جميع أفرادها، ولا تُوجد قيمة مُعيَّنة مُقتصرة علينا تكون فيها حجر الزاوية هي السيدة الأرمنيَّة المُحبَّة لعائلاتها، والحريصة على أن تكون قويَّةً مُتماسكةً مُترابطةً، وتُربِّى أبناءها على حُبِّ الرِّياضة والفنون، وهو ما ظهر جليًّا في تفوُّق الشَّباب الأرمني في المجالات الرِّياضية؛ فأبطال مصر في الرِّماية من أصول أرمينيَّة، وكذلك أبطال كُرة السلة، والأمر ذاته ينطبق على الفنون؛ فأشهر الفنَّانين الأرمنيين فيروز، ولبلبة، ونيللي، وفنَّان الكاريكاتير المعروف ألكسندر صاروخان. أما عن الأطعمة التي يتناولها الأرمنيون في مصر فهي محدودة للغاية؛ نظراً لاندماجنا في نسيج الشَّعب المصري، فأطعمتُنا هي نفسها التي يتناولها الشَّعب المصري، ربما فقط في الأعياد نُفضِّل أن نقوم بإعداد أطباقٍ خاصَّةٍ تُميِّزنا، وهي التي توارثتها الأجيال، وربما أيضاً لكون الأرمنيين شعباً شرقيّاً، فلذلك لم تختلف أطعمته كثيراً، وتكون مُشابهةً للأطعمة الشَّامية والمصريَّة».

الهوى والهويَّة

رغم وجودهم في مصر منذ قرابة قرنين من الزمان فإن الأرمنيين ظلُّوا مُحافظين على هويَّتهم، والتي لم تذُب أو تنسلخ عنهم، فأصبحوا مصريي الهوى، أرمنيي الهويَّة.. هكذا قال بيرج الذي أضاف: «الحفاظ على الهويَّة جزء من الانتماء إلى الأصول الأرمنيَّة، فهي بمثابة ثروة من العصور القديمة، ووجودها بجانب الهويَّة المصريَّة بداخلنا لم يخلق أي تضارُب، بل جاء مُعزِّزاً لبعضها البعض، والموضوع ليست له علاقة بالأرمنيين في مصر فقط، بل في العالم بأسره».

«طائفة» وليست «جالية»

يُؤكِّد بيرج أن معظم الأرمنيين يدينون بالمسيحيَّة، فدولتهم كانت الأولى التي تعتنق تلك الديانة بالكامل، إلا أن بعضهم قد غيَّر عقيدته لأسباب عدَّة، وهو ما لا يُمكن بسببه نزع هويَّتهم الأرمنيَّة ولا جنسيَّتهم، فالدولة حاضنة لكل المُعتقدات.
ويُفضِّل بيرج أن يُطلق على الأرمن الذين حصلوا على جنسيَّات أخرى عقب الهجرة اسم «الطائفة» بدلاً من «الجالية»، معلِّلاً ذلك بكون لفظ «الجالية» يُطلق على من يستوطن دولةً ما لفترة زمنية قصيرة ولا يُشترط فيها الدوام. أما «الطائفة» فهم أناس استوطنوا أرضاً وأصبحوا جزءاً من نسيجها الوطني، وأقاموا فيها بصورة دائمة، إلا أنهم مُختلفون عقائديّاً عمَّن حولهم من المُواطنين، وهو ما ينطبق على الطائفة الأرمنيَّة في مصر.