ما زلتُ أذكر أول مرة ذهبت فيها إلى السينما، حدث ذلك قبل إحدى عشرة سنة، حين كنتُ في نهاية مرحلتي الإعدادية، وكانت تعتريني الرهبة لمجرد التفكير بحضور عرض لفيلم، إذ إنني نشأت في وسطٍ محافظ يُعد السينما من المحظورات التي لا نقاش فيها، فاقتصرت مشاهداتي للأفلام على ما تعرضه بعض قنوات التلفاز، وأقراص الـ DVD التي كان نصفها مقرصناً وبجودة رديئة. إلى أن جاء اليوم الموعود، حين ألحَّ عليّ أحد أصدقاء السوء الطيبين بالتسلل إلى خارج المدرسة في وسط الفسحة والذهاب إلى أحد المراكز التجارية لتناول إفطار كونتيننتال لائق بدلاً من مناقيش الجبنة والزعتر، وأرجو هنا ألا تحكموا عليّ من (شردةٍ) واحدة، فقد كنت تلميذاً مؤدباً واحتكرت جائزة الطالب المثالي لثلاث سنوات متتالية. كان صديقي قد أعد العُدة لكل شيء، فلم نتسلق سوراً أو نقفز من نافذة، بل خرجنا بهدوء من الباب الأمامي، بينما كان الحارس الخلوق ينظر إلى الجهة الأخرى، وعلى بُعد مئة متر كانت تنتظرنا سيارة أجرة مستعدة لأخذنا إلى أي مكان في العالم بثلاثة دراهم ونصف الدرهم.

عرض 11 صباحاً!

عندما فرغنا من الطعام، كان لدينا متسعٌ من الوقت قبل جرس انتهاء الحصة الأخيرة، فاقترح صديقي بأن ندخل السينما، وكان معتاداً على ارتيادها أسبوعياً، بينما أخفيت عنه أنني لم أدخلها في حياتي، واخترنا الفيلم الكوميدي Norbit من بطولة إيدي ميرفي (عرض الساعة 11:00 صباحاً)، وتزودنا بالفشار والناتشوز، وكنت طيلة الوقت أتلفت يمنة وشمالًا خوفًا من أن يراني أحدٌ من أهلي، فيقبض عليّ بجُرم الهرب من المدرسة وجُرم ارتياد السينما، إلى أن وصلنا أمام القاعة، وخطوت إلى الداخل كخطوة نيل آرمسترونغ التاريخية على سطح القمر، وانتابني شعورٌ بالأمان حين أُطفئت الأنوار، واسترخيت في مقعدي مُطلقاً تنهيدة، كأنني خرجت للتو من المجال الجوي لدولةٍ كنت ملاحَقاً فيها.
حين أفكر بالأمر بعد كل تلك السنين، أرى أن السينما كانت وما زالت بالنسبة إلي ملاذاً قبل أن تكون وجهةً ترفيهية، أهرب إليها من حينٍ لآخر كما هربت من المدرسة في ذلك الصباح البعيد. والدليل على ذلك أنني أشتري أحياناً تذكرةً لفيلم لست مهتماً به، لكنني فقط أرغب بتزجية الوقت في مكانٍ أشعر فيه بالأُلفة، كما أنّ أغلب زياراتي للسينما تكون في النهار، مثلما كانت المرة الأولى، حيث ينشغل الناس عنك بدواماتهم، وتكون القاعة شبه خالية، وتشعر بأن المكان بأكمله تحت تصرفك، وأن بوسعك مدّ ساقيك عن آخرهما، أو التحكم ببرودة المكيف، أو إعادة اللقطة التي تضحك فيها «كيرا نايتلي» حتى تبرز عظام وجنتيها.

السينما فتنة النهار

صحيح أن أغلبنا اعتاد الذهاب إلى السينما ليلاً، لأن الدوامات تسرق صباحاتنا، والأفلام تبدو أكثر شاعرية حين يحل الظلام، ومن هنا يأتي مصطلح (فيلم السهرة)، لكنني أؤكد لكم بأن السينما لا تقل فتنة في النهار، فهي تكتسي حينها بجاذبية هادئة، وتمدك بخدر لذيذ، وتعفيك من الوقوف في طابور التذاكر، بينما تتثاءب ويتثاءب العامل، وتتعالى فرقعة الفشار الطازج من مكانٍ ما. تفقد كثيرٌ من الأفلام رونقها حين تشاهدها في قاعةٍ مزدحمة تضجّ بالأحاديث الجانبية ورنين الهواتف وبكاء الأطفال والرفسات على مقعدك من الخلف، لكن أيّاً من هذا لن يزعجك في العروض بين العاشرة صباحاً والثالثة ظهراً، ولن تجد سوى بعض الوحيدين، أو الأزواج الأجانب، أو الجامعيين الذين يستغلون الفراغ بين محاضراتهم، وقد تقطع أحياناً خلوةً بين عصفورين يجلسان في طرف القاعة، وينتهي الفيلم من دون أن يتذكّرا شيئاً من أحداثه.
خرجت ذات يوم من القاعة 9 بعد انتهاء فيلمي، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراً، وكان في وسعي أن أدخل القاعة 8 أو 7 لأتابع الأفلام التي تُعرض فيهما من دون أن يعترضني أحد، لم أفعل بالطبع، لكنني أحب التفكير بالاحتمالات المفتوحة والأبواب المفتوحة وشريط الفيلم الذي يدور للا أحد. أحتفظ بتذاكر عديدة دفعت ثمنها ولم تُقطع لأنني لم أجد عاملاً عند باب السينما في صباح ما، فدخلتُ وكأنّ البيت بيتي. ويؤسفني أن أكشف مخبئي أمامكم، لكن إن تغيبت يوماً عن دوامي من دون عذر وكان هاتفي مغلقاً، فتعرفون أين تجدونني.