انتبهتُ إلى أنني قد نسيت حقيبتي الصغيرة عند حاجز التفتيش، بعدما أدركت منطقة المغادرين في المطار فور ختم جواز السفر، وعند عودتي إلى رجل الأمن أطلب منه إذن عودة المرور خاتماً طلبي تأدباً على ما درجنا على قوله في اللهجة: «الله لا يهينك»، امتعض وهو يجيبني بأني أتقول على الله عبارات تخلو من التأدب، وإثر محاولاتي للتملص من حديث لا طائل من ورائه، تلافياً لإقلاع الطائرة من دوني، لم يسمح لي بالمرور قبل أن يريني مشهد فيديو في هاتفه المحمول، لما سمّاه رجل دين، يشدِّد على أننا درجنا على استخدام عبارات خاطئة في لهجتنا الدارجة من شأنها أن تؤدي بالمرء إلى الوقوع في الحرام من دون أن يشعر، لم يسمح لي بالمرور بعدما أجبته بأنني لا أفهم ما يقوله أولئك الناس، بحسن أو سوء نية، الذي أعرفه أننا درجنا على الأقوال البسيطة بحسن نية، وأن من أسماء الله الحسنى: المعزّ والمذل، وأنه إذا شاء يعز عبده أو يذله، أسند هاتفه المحمول على المنضدة أمامه: «يعني أنت تفهم أكثر من الشيخ؟»، هززتُ رأسي نافياً، طمعاً في استعادة حقيبتي المنسية، فأعزَّني بالعبور!
مثل هذه المواقف يتكرر باستمرار إزاء تسليم الناس بحقيقة كل ما يرد إليهم على لسان من يبدون دعاة للدين، حتى صار الأمر يقيِّد ألسنتنا في بسيط أحاديثنا. أن تحذر شخصاً بأمثلة شعبية دارجة مثل: «الله ما يطق بعصا»، من شأنه أن يفتح باب جدل لا ينتهي، جلَّ الله أن يضرب بالعصا! وأن هذا التشبيه، رغم أنه تنزيه، قد يؤدي بالمرء إلى الوقوع في الخطيئة إثر تشبيهه تعالى بالإنسان، أنا لا أجد أكثر من العبارات الموروثة في لهجتنا بساطة في إيصال الفكرة قولاً، أن تحذر المرء المقبل على ارتكاب أمر مكروه بأن الله لا يضرب بعصا كما يفعل البشر؛ لأنه شديد العقاب، وفق النصوص الدينية، أمرٌ لا يحتمل كل هذا التعقيد والتحريم والتجريم.
وردني تسجيل فيديو قبل شهور عن داعية يحذر من استخدام عبارة دأبنا على استخدامها تحبباً: «الله يخليك»، إذ يرى الرجل أنك بدعائك لأحبتك بهذه العبارة «يخليك» تعني أن يتخلى الله عنهم!
أي حواجز وتعقيدات تلك التي يحشرها البعض في ألسنتنا حتى إذا ما جئنا ندعو لمن نحب «الله يخليك» ينتفض كما لو أنه تلقى لعنة؟ وأي سوء ظن بالله يمارسه البعض من دون تفكير، بافتراضه بالله سوء الفهم وهو الذي يعلم ما في الصدور، والذي يدعوه الناس بكل اللغات واللهجات سرّاً وجهراً؟
إصرار البعض، وإن بحسن نية، على حشر الدين في تفاصيل الحياة البسيطة يؤدي بالمرء إلى الضيق بما يؤمن، كما لو أن الدين قد وُضع للتحريم ولترصّد الناس من أجل عقابهم ليس إلا. يداهمني الشك أحياناً في أن البعض يتعمَّد الأمر لما بتنا نراه من تلك الفتاوى السطحية التي صارت تلاحقنا عبر مواقع التواصل وتغزو هواتفنا بالرسائل النصية المدعمة بالفيديو لمن يحسبهم الناس فقهاء، والعامة من الناس تتكاسل في التفكير وتأخذ كل ما يصدر عن بعض الدعاة على محمل الوجوب، ما يدفعهم إلى التبرؤ والاستغفار إلحاقاً لبعض كلمات اللهجة الموروثة، والغريب أن من يتخذ من الدعوة سبيلاً جديّاً لا ينفي هذه الأباطيل التي يروجها البعض، والتي صارت تلاحق الناس وتضيق عليهم.
من أمثالنا الشعبية: «حطها براس عالم واطلع سالم»، نعم، هي مسؤولية علماء الدين في تثقيف الناس بأمور عقيدتهم، لا تنفيرهم من عفويتهم وتعقيدهم.