ماذا كانت تخفي ابتسامة الشيخ محمد القصبجي الحزينة وهو يعزف على العود في أواخر أيامه وراء أم كلثوم، التي منحها كل ما يملك من قوة عاطفية وموسيقية؟ كان الشيخ المجدد محمد القصبجي مسكوناً بحب أم كلثوم، التي ظل يتماهى في صوتها حتى انتفى فيه. الرسائل التي كتبها تبين، بشكل ظاهر أو خفي، ذلك الحب الذي تصاعد حتى أصبح حقداً، مع أن كل شيء بدأ بشكل طبيعي بين ملحن كبير وفنانة صاعدة. كان سيد العود بامتياز، أمنيته الكبيرة هي أن يموت محتضناً آلته وحبيب قلبه، ومكمن سره، العود. هذه الأمنية كان قد أسر بها لصديقه المؤرخ الفنّي محمود كامل، إذ قال له: أمنيتي في الحياة أن أموت وأنا أعزف العود وراء أم كلثوم.
للقاء بين القصبجي وأم كلثوم قصة طويلة. فالموسيقار محمد القصبجي (1892- 1966) ولد في العام نفسه الذي ولد فيه سيد درويش، كانت درجة حساسيته كبيرة، فاستطاع أن يغطي على هذا الأخير الذي رحل عن هذه الدنيا مبكراً، عام 1923. كان محمد القصبجي يستعد للذهاب بعيداً في مشروعه بالخصوص مع منيرة المهدية وفتحية أحمد، لكنه ظل في حدود التجربة العامة؛ لأن أم كلثوم متمركزة حول الذات ولا تريد منافساً لها، لا تتعامل إلا مع من يتفرغ لها كلياً، تكبر التجربة مع أم كلثوم لأن قوة صوتها كانت تحتاج إلى موسيقى بالقوة نفسها، صاحب ذلك انتقال أم كلثوم من الريف إلى القاهرة. مع رحيل أستاذها الأول أبو العلا محمد عام 1927 كان صوت أم كلثوم قد استقر نهائياً كصوت غنائي تجاوز صوت منيرة، وابتعد عن الإنشاد الديني.
كان القصبجي مؤهلاً لأداء المهمة الصعبة: تعويض أستاذين ثقيلين، سيد درويش وأبو العلا محمد. كانت أم كلثوم بالنسبة إلى القصبجي ملهمته، ومرجعه الصوتي، ومكمن إبداعه، ورهانه الموسيقي التحديثي، استطاع في وقت وجيز أن يمحو ملامح سيد درويش وأبو العلا والشيخ زكريا أحمد، أساتذة أم كلثوم، في وقت مبكر، حتى مطلع عقد الأربعينات، يمكن القول إن محمد القصبجي ظل يمارس دوره كأستاذ أساسي لأم كلثوم، هو الملحن الرئيسي لأغنياتها، وهو قائد فرقتها الموسيقية، وهو الذي يختار لها الألحان المناسبة لصوتها، بما في ذلك ألحان رياض السنباطي، عندما ظهر في حياة أم كلثوم في منتصف عقد الثلاثينات.
محمد القصبجي أصبح منذ لقائه أم كلثوم يعتمد على صوتها وحده لإطلاق تجديداته الموسيقية، فابتكر أشكالاً موسيقية حية منها المونولوج، في أغنيتها الشهيرة إن كنت أسامح وأنسى الأسية، ثم في طالت ليالي البعاد، فين العيون، ياما ناديت من أسايا، وآخرها رق الحبيب. عقدان من الزمن مرا والقصبجي في قمة تألقه مع أم كلثوم، موسيقياً وعاشقاً، يمارس دور المبادر، والأستاذ والمعلم، غير أن مزاج أم كلثوم الموسيقي ظل يميل أكثر إلى الأساليب التقليدية القريبة من الإنشاد الديني؛ أخذت تتمرد على أستاذها القصبجي، بعد أن تربعت على عرش الغناء العربي، سيدة أولى، لا منافس لها.
هذه العودة للتقليد من أم كلثوم، دفعت بمحمد القصبجي نحو أصوات تتقبل فعله التحديثي في الموسيقى العربية، فلحن لأسمهان وليلى مراد، ونور الهدى، الأمر الذي دفع بأم كلثوم إلى حالة هيستيريا غير مسبوقة. وصل الخلاف والغيرة إلى السقف، وتحول الحب إلى كراهية، وجاء فشل فيلم عايدة تمثيلاً وغناء، ليتحول إلى حالة تدمير كلي للعلاقة، إذ حملته مسؤولية ضعف الألحان، واكب ذلك فشل أغنية وقفت أودع حبيبي، عام 1941 لصديق القصبجي، الملحن اللبناني فريد غصن، الذي أتى به القصبجي. رأي آخر. مصدر الإخفاق ليس في لحنه ولكن مرده عوامل أخرى، منها عامل الغيرة الفنية، التي كان محورها النجاح الجماهيري، الذي بدأت تحصده ليلى مراد، بالخصوص أسمهان التي زودها بألحان عبقرية وجريئة جمعت بين الجرأة والجماهيرية والأداء الكبير، يضاف إلى ذلك ثلاثة ألحان منحها لليلى مراد، أهمها أنا قلبي دليلي، في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، كان ذلك بمثابة الضربة القاضية للعلاقة بين أم كلثوم والقصبجي. لم تعترف له حتى بحق الأستاذ الأساسي في شهرتها، ضربت القصبجي في المكان الموجع، نزعت منه قيادة الفرقة وحولته إلى مجرد عازف للعود في الفرقة. مات القصبجي وهو منكفئ على عوده.