هذا الصيف، أحضرت معي إلى مدينة كان نسخة رخامية مُصغّرة لقُبلة رودان الشهيرة، أحتفظ بها على رف في مكتبي. هي عبارة عن تمثال صغير بحجم 40 سنتيمتراً هدية من أختي صوفيا المولعة بالفن. حملت هذا التمثال بيدي طوال الرحلة، خوفاً عليه. كان يحلو لي أن أرى العاشقين الرخاميين يعبران ممرات الأشعة الكاشفة، متعانقين، غير آبهين بتلصُّص رجال الجمارك أو دهشتهم، كلّما عثروا عليهما مختبئين في منشفة بحقيبة يدي. هل أجمل من قُبلة مهرّبة!
في آخر زيارة لنزار قباني إلى بيروت، وقبل وفاته ببضعة أشهر، قمت بزيارته قبل مغادرته إلى لندن. وجدته كئيباً، كأنه يستشعر النهاية. قدّم لي، رحمه الله، كوب عصير وشوكولاتة. لكن «صهيل أحزانه» كان أعلى من ألا يسمعه قلبي. عند وداعه، أخذت يده اليمنى، وتركت عليها قبلة تحريضيّة على الفرح، ووشوشته «ستكتب نصوصاً جميلة بهذه اليد.. عدني بذلك!».
ابتسم نزار وهو يتأمّل يده، وكأنه عثر على مشروع قصيدة. تنبّهتُ لحظتها إلى أني تركت آثار أحمر شفاه على يده. اعتذرت وحاولت مسحها، لكنه سحب يده، وقال بنبرة لم أميّز فيها نسبة المزاح من الجد «لا تمسحي قُبلتك، سأُصرِّح بها لرجال الجمارك!».
لم أسأله وهو مفتي العشّاق، إن كان الأجمل التصريح عن قُبلة.. أم تهريبها؟ على الأقل لإقناع البوليس البريطاني، إن عثر عليها، بأنّ العرب لا يُهرِّبون المتفجرات فحسب. بعضهم يهرِّب القُبل ومناشير الحرّية، ويعلن نفسه شيخاً من شيوخ الحبّ، قبل مجيء زمن السيّافين، وقُطاّع الرؤوس. أليس نزار من قال: «غنّيتُ النساء حتى صرتُ شيخاً من شيوخ الطُّرق الصُّوفيّة، وصار قلبي ملجأً لطالبات العشق والحياة والحرّية»؟ بالمناسبة، إن تمثال «القُبلة» هذا، الذي هو أحد أشهر المنحوتات العالميّة، كان في القرن التاسع عشر يخدش ذوق الأميركيين. حتى إنه أثناء عرض كان مُخصَّصاً في نيويورك لأعمال صاحبه النحات الفرنسي الكبير رودان، تمّ وضع التمثال الضخم في قاعة منفصلة ومغلقة، لمنع الجمهور من زيارته، بحجة أن التمثال واقعي أكثر من اللازم!
ولا لوم على الأميركان، إن هم قاطعوا القُبل. فبينما كان «عنترنا» يُنشد في ساحة الوغى «وددتُ تقبيل السيوف لأنها.. لمعت كبارق ثغرك المتبسّم». ما كان ماركو بولو مكتشف أميركا قد ولد بَعدُ. لقد انطلق فنّ التقبيل في عشرينات القرن الماضي فقط، على أيام السينما الصامتة. ثم نضجت شفاه أميركا، على شاشة هوليوود في الخمسينات، فقد كان الكاوبوي، وهو يطارد المطلوبين للعدالة، يسرق بين منازلتين وجثتين، قُبلةً شرهة من غانية صادفها في (بار). اكتشفنا بعد ذلك، أن كلّ الحرائق التي أشعلتها هوليوود، كانت بحطبٍ مغشوش، وأعواد ثقاب مُبلّلة. فكاري غرانت رمز الرجولة والوسامة، وسيِّد الأدوار العاطفية التي ألهبت قلوب النساء، كان في الواقع شاذاً. ومارلين مونرو القنبلة الشقراء، كانت حسب شهادة من ضمّوها إلى صدورهم، أو قبّلوها مُكرهين في مشهد سينمائي، امرأة من سلالة الإسكيمو، بشفتين جليديتين مُحرقتين برودة. أما وودي آلن «الحبوب» الذي يُوحي بالمرح، فقد سبق لزميلته الممثلة هيلينا كارتر أن صرحت، بأنّ معانقته في السينما كمعانقة حائط برلين. لا تحتكموا لغير شفاهكم إذاً أيها العشاق. فليس ثمّة من قُبل بالوكالة!
ولا تتأثروا بما تشاهدونه من قُبل محمومة في الأفلام الهوليوودية. إنّ قبلة مهرّبة في حقيبة يد، أجمل من كل القُبل التي تعطى على الطلب!