ليست خرافة، ولكنها قصة تشبهنا جميعاً. ماذا لو سكنّاها قليلاً في انتظار أن تنطق القبور والأتربة بأسماء الرفاه التي تنام فيها منذ أكثر من نصف قرن؟ موريس أودان (1932-1957) وجوزيت سامبي (1931). كغيمتين التقتا، وكعصفورين يتيمين افترقا. كانت شمس الجزائر وبحرها رائعين لكن الحرب لم تكن رحيمة. منحتهما الحياة كل شيء جميل بكرم كبير، الجمال والإرادة والرغبة في الحب، والانتصار للحياة. تعرفا إلى بعض في ثانوية غوتييه التي درّسا فيها معاً. على حافة البحر شبكا أيديهما وأكفهما واتفقا على شيئين كبيرين: حب الحياة والوفاء للإنسان في عز حرب كانت بصدد خلق القتلة والوحوش، وقوافل الشهداء. كلما ضاقت بهما سبل الدنيا هربا نحو بحر تيبازة أو جبل الملك كوكو ورأيا العاصمة من المرتفع، وصرخا: لماذا يا الله خلقتَ من يدمرها ويفسد فيها؟ كانت الجزائر يومها تمنح الحب والرغبة في قلب طاولة المظالم الكبيرة ضد شعب وجد ليعيش لا ليموت. وقفا بجانبه حتى الموت، مخترقين زيف الوطنية المظللة. وكأن الزمن كان يطاردهما. صمما على الزواج بسرعة، لأن الحب العاصف لا يقبل التأخير والانتظار. تزوجا ليجعلا من الحب فرصة عشقية تعاش أبدياً في لحظة مضغوطة وكبيرة. الحب لا يقاس بطول العمر وبالسنوات، ولكن باللحظات الأكثر جنوناً وكثافة. عندما وقفا في مواجهة البحر ضحكا طويلاً، عندما تأكدا أنهما أصبحا زوجاً وزوجة. قالت جوزيت وهي تضمه إلى صدرها مخافة أن تسرقه حرب المدينة المشتعلة: ما زلتَ طفلاً حبيبي، أكاد لا أصدق أننا أصبحنا زوجين؟ قال وهو يفك لغز ابتسامتها الجميلة: حبيبتي ليس للحب عمر. يمكنك أن تكوني لي حبيبة وأماً. لكني أحلم منذ الآن بأن أملأ هذه المدينة الجريحة بنات وشباناً. أشتهي أن أكبر في رفقتهم، أصبح واحداً منهم، أحبهم وأمنحهم كل ما أملك من نور في داخلي. هل هي الرعود حبيب القلب؟ لا يا ابنة الحنين، إنها دمدمة المدافع والحرب، التي كلما قطعت خطوة خلفت وراءها أشلاء ودموعاً وخراباً. قال موريس. قصا على بعضهما قصص الخوف والفرح أيضاً. تعانقا كنجمتين تصطدمان وتفترقان من نشوة الحب والشوق. وعندما فتحا أعينهما وجدا نفسيهما أمام ثلاثة أبناء وكأن الزمن كان يطاردهما بقسوته، فمنحهما سرعة عشق الحياة: ميشيل (1954) لويس (1955) وبيار (1957). كانت جوزيت معلمة، في ثانوية غوتييه، بالجزائر العاصمة بينما التحق موريس بالجامعة. كان موريس أودان شعلة في الذكاء والتجريد الرياضي. قبل أن يصبح أستاذاً مساعداً في الرياضيات لأستاذه البروفيسور روني بوسيل، في جامعة الجزائر المركزية. ويحضر دكتوراه في المعادلات الخطية. نوقشت رمزياً في غيابه in absentia في 2 ديسمبر 1957. وتحصل موريس على الدكتوراه. لم يشك موريس لحظة واحدة في أن حياتهما أصبحت في خطر، ومصيرهما على كف عفريت عندما خبآ في بيتهما صغير المناضلين الجزائريين أيام حرائق معركة الجزائر التي غيبت في ليالٍ معدودات أكثر من 3000 جزائري لا أحد يعرف مصيرهم اليوم. كانت وسيلتهما للوقوف مع الثورة الجزائرية ومن أجل استقلالها، ورفض الحرب. عندما دخل عليه المظليون في بيته، طلب شيئاً واحداً، أن يودع زوجته وأبناءه. لكن اليد القاتلة شاءت غير ذلك. كان صيف الجزائر في عزه، وموريس وجوزيت ينتظران بفارغ الصبر العطلة للهرب نحو البحر والجبل. لكن ذلك لن يحدث أبداً. فقد سطر القتلة المظليون مصيراً آخر لموريس أودان. صباح 11 يونيو 1957 نحو جهة مجهولة. عندما سألت عنه جوزيت، قيل لها إنه هرب من السيارة العسكرية التي كانت تنقله نحو مكان الاستنطاق. منذ ذلك اليوم لم يعثر له على أثر. بكت جوزيت طويلاً، ثم بدأت رحلة البحث الطويلة التي استمرت حتى هذه الأيام، عندما اعترف الرئيس ماكرون بجريمة تعذيب موريس أودان وقتله. وكان أحد الجنرالات القتلة، أوساريس، قد اعترف في مذكراته قبل موته: قتلناه بطعنة سكين لنوهم الرأي العالم الفرنسي أن المجاهدين الجزائريين هم من قتلوه. على الرغم من الأبواب المسدودة، لم تنحنِ جوزيت بحثاً عن حقيقة اختفاء موريس. وقد منحها القدر فرصة أن تقتفي خطاه، وتصنع له قبراً يليق به يزوره فيه أبناؤه وأصدقاؤه ومحبوه. وتنام بجانبه في انتظار أن يعود موريس ويصعدا إلى جبل الملك كوكو ورؤية الجزائر العاصمة من الأعالي، على مبانيها البيضاء الأعلام التي حلما بها.