نادر هو دخولي إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من هذه الندرة بدافع الحذر، فإنني أندم أشد الندم وقتما أفعل من أجل كتابة تغريدة تبدو نشازاً بين بضع تغاريد خلالَ نعيق صاخب. أنا لا يمكنني أن أفهم أو أتفهم كمية الكراهية التي تعشش في نفوس البشر، تلك التي ينفسون عنها عبر تلك التطبيقات في هواتفهم المحمولة. وكيف للإنسان أن يعيش حياته بشكل طبيعي إزاء كل تلك المعارك المجانية التي يورط نفسه فيها؟ وهذا العمى الجمعي المخيف، معارك مجانية باسم الدين والطائفة والقبيلة والوطن. أوهام البعض بتصوره أنه ينتصر لدينه أو طائفته أو وطنه من خلال تكفير أو تخوين الآخر، في حين أن الدين، كما أتصور، هو علاقة الفرد بخالقه، والوطنية هي علاقة الفرد بوطنه؛ يمارس فيه حقوقه ويؤدي نحوه واجباته. فما شأن الآخرين؟ وكيف يصير إقصاء الآخر، وفق مفهوم البعض، انتصاراً للذات؟

في إحدى دول الشرق الأقصى، قبل سنوات، كنت أنتظر على الرصيف إشارة عبور المشاة لأقطع الشارع إلى الرصيف المقابل حيث وجهتي إلى أحد المتاحف. تأخر الإشارة منحني فرصة حضور مشهد لم يغب عن مخيلتي قط. رحت أثناء انتظاري أتلفت أعاين المكان في الظهيرة الشتوية؛ على مبعدة خطوات معبد سيخي بين الدكاكين المطلة على الشارع، تزين بوابته أحواض ماء تطفو فيها ورود اللوتس، وفي امتداد الرصيف، وراء المعبد، مقبرة بوذية خضراء تمتد إلى آخر الشارع، حيث يبتلع المارة نفقٌ للمشاة. أغلقت فتاةٌ صينية محجبة دكانها، ومضت في السير على الرصيف حيث أقف. مرَّت باسمةً تحاذي المعبد السيخي، حيث يركع بعض رواده يلصقون جباههم على ما يشبه الدَّكة عند المدخل. استوقفها شابٌ هنديٌّ ملتحٍ مُعمم يبدو أنه يعمل على خدمة رواد المعبد. يبدو المشهد مكرراً بينهما، ويبدوان على معرفة ببعضهما بحكم الجيرة. راح الشاب يرجوها الدخول وهو يفتعل تعبيرات التوسل على وجهه، كان يمزح بلا شك وهو يقطع عليها الطريق مباعداً بين ذراعيه يحثها على دخول المعبد ولو لمرة واحدة وهو يضحك. كانت تضحك بدورها وهي تصده وتشير إلى حجابها دلالة على إسلامها. مطَّ شفتيه يفتعل حزناً وخيبة. مدَّ كفَّه إلى حوض ورود اللوتس، أهداها واحدة ثم أفسح لها الطريق للمرور ملوحاً بيده يودعها على أمل قبول دعوته في الغد.
مضت الفتاة الباسمة حاملة وردة السيخي حتى حاذت المقبرة البوذية الخضراء. انحنت على أحد القبور تضع الوردة برفقٍ قبل أن تمضي لتختفي في النفق آخر الشارع.
لا أدري كم مرة أضاءت إشارة عبور المشاة وأنا ساهمٌ في تفاصيل المشهد..
ولا أدري كم مرة زارني الموقف، بعد ذلك، كلما أصابتني الحسرة على ما نحن فيه.
الذي أدريه أن لا شيء خدش إسلام الفتاة، وأن لا ضرر جاء من خادم المعبد السيخي، وأن البوذي الذي حظي بالوردة ينام في قبره بين يدي إلهٍ عادل.