لو كتبنا (وأنت كنت قلت هذا) فلا شك في أننا سننطقها بصيغة التذكير، ولن نتصورها بصيغة التأنيث والذهن سينحصر بالتذكير، لأن اللفظ فحل كما قال ابن جني، واللغة بصيغتها الكتابية تاريخياً هي مملكة الرجل، فهو من رسم شروط الكتابة ووظفها حكراً عليه، هو المرسل والمستقبل، وكانت المرأة أمية وخارج النص المكتوب لا تكتبه ولا تستقبله، وحينما سمحت الثقافة للمرأة بأن تمسك بالقلم حاصرتها بشروط التذكير لدرجة أن كتابة الجملة السابقة بصيغة كاملة التأنيث ستثير موجة رفض عجيبة، فإذا كتبتها مؤنثة: (وأنتي كنتي قلتي هذا) فهذا سيكون مشروع تدمير للغة العربية، كما هو رأي الدكتور سليمان العيوني، وهو الرجل النحوي المتبحر والعالم المتخصص، وليس لي هنا إلا أن أقول إن رأياً كهذا ليس له سند علمي ولا معرفي، وهو مجرد حالة توجس ثقافي تصنع في العصر الحديث بسبب ظروف ذاكرة الاستعمار والمؤامرات التي خلفت نوعاً من الفوبيا الثقافية وصلت للمسائل اللغوية وكيف ننطق أو نكتب، وفي مقابل العيوني نجد باحثاً لغوياً متخصصاً هو الدكتور عبد الرزاق الصاعدي الذي بحث ونبش في التراث، ليكتشف شواهد قديمة عن مرويات عربية تجيز كتابتها بالياء، وهذا كشف علمي له مكانه المحترم، غير أني أحاذر من هذا التصور الذي يحصر ما يقال ويكتب على ما فعله سلف ماتوا قبلنا بقرون، فإن لم نجدهم سبقونا لأمر فلا يصح منا أن نتصرف خارج الأموات من سلف الأمة، وكأن اللغة محكومة بالموتى وليست حقاً للأحياء.
ولو تمعنا في هذه المسألة وقسناها على حال الأنساق الثقافية، فإن الأمر يعود إلى أن المرأة كانت خارج لغة الكتابة وحدودها المشافهة فحسب، ولذا كان سلفنا يقولون: أنتي / كنتي / قلتي، يقولونها نطقاً ومشافهة، ولم يكونوا يكتبونها، لأن المرأة لا تستقبل نصاً مكتوباً، هي تسمع فحسب، والجملة التي في مطلع المقال ستكون حتماً للرجل حسب قانون النسق الثقافي بما أن الرجل وحده يكتب ووحده يقرأ، ولو شاء مخاطبة الأنثى فهو ينطقها ولا يكتبها، وهذا يلغي شرط قيام علامة لتأنيث صيغة الخطاب كتابة، ذاك أمر في ذاكرة اللغة، وحينما جاء عصر الكتابة للمرأة ظلت قواعد الإملاء متجمدة على حال الزمن القديم (ما قبل تعليم المرأة)، أي ظلت المرأة في سجن الشفاهية، وهذه تشير إلى حال التعود الذهني الذي يتحول إلى تعود بصري فيستقر مع الزمن والتداول ليصبح قانوناً يظن أنه علمي وهو ليس سوى نسق ثقافي، أنتج لنا مقولة متعنتة هي مقولة: قل ولا تقل، وهي كلها تعتمد على نظرية أن اللغة مورث حكري للأموات فننطق كما نطقوا، ونكتب كما كتبوا، وهذا في ظن قائليه هو الذي يحفظ اللغة ولكنه حفظ للتجميد وليس للحياة. والأكثر صدمة من هذا كله هو خنوع بعض المثقفات وأستاذات النحو لتقبل نفي المرأة من علامة لغوية تجعها حية وحاضرة، وذاك علامة على تمكن النسق لدرجة أن تلغي المرأة وجودها المعنوي والعلاماتي. وإن كتبت المرأة نفسها كتبتها مكسورة، وترضى بالكسرة ويكفيها أن تكون مكسورة في لغة الرجال (أنتِ / كنتِ / قلتِ)، أما أن تعتمد إشارة كاملة للتأنيث فتكتب (أنتي / كنتي / قلتي) فهذا تدمير للغة الفحول ومؤامرة حداثية، أو يحتاج لبرهان فحولي مسنود لأموات، ويتم هنا تجاهل التحول الثقافي الكوني والنوعي حتى لمنع ضمير اللغة من أن يتأنث.