هناك مفاهيم ثقافية راقية تشعرك بالتحفيز وتوحي لك بأنها الوعد الذهني بحل مشاكل علاقات الناس بالناس، مثل مصطلح (النقاش) ومصطلح (الحوار)، بما أنهما يجريان على الألسنة كوعد لحل أي تشابك لفظي أو ذهني، ولكن العلل النسقية تلاحقهما لتجعلهما صيغتين مكررتين من الوصاية الذهنية، حيث تجنح الممارسات إلى تصور النقاش وسيلة للإقناع، وتصور الحوار على أنه مشروع للوصول إلى كلمة سواء بين المختلفين، وإذا لم يفضِ النقاش لإقناع ولم يفضِ الحوار إلى اتفاق انقلبت الأحوال لتكون أسوأ من ذي قبل، حين يصف كل طرف صاحبه بأنه عنيد ومتحجر، ولا يتقبل الأفكار، وقد يتأزم بأخذ هذه المآلات سبباً لتصرف عدواني ضد كل طرف مع صاحبه.
أي أن القضية كلها قامت على تصور أننا نتحاور لكي نكسب الموقف لصالح فكرتنا، وأننا نناقش لكي نقنع الآخر بخطئه مقابل صوابنا، وهذا يحدث في كل حالة يقدم فيها الناس على ما يسمونه نقاشاً أو حواراً، مما يعني أنهم لم يمارسوا النقاش بوصفه نقاشاً ولا الحوار بوصفه حواراً، وكل ما يفعلون هو تحويل المعنى ومخاتلة الذات كي تسلك طرقاً وردية لفرض الرأي تحت مسميات مغرية ظاهرياً ولكنها تنطوي على نية في الفرض.
وهنا لن يفلح النقاش ولا الحوار بصيغتيهما المشوهتين هاتين في أي تقدم ذهني ولا في أي مردود معرفي أو في نظام علاقات الناس بالناس، وسيظل كل طرف متمسكاً بما يراه، وسيتعزز هذا التمسك ليكون اصطفافاً مؤدلجاً يتحول فيه المتخالفون إلى خصوم عتاة تحت دعوى أن كل واحد كشف حقيقة صاحبه.
وبالتالي ستكون المناقشة والمحاورة سبيلاً لمزيد من التنافر، وهكذا نقضي على أجمل مصطلحات اللغة ومصطلحات العلاقات الثقافية بيننا لأننا سمحنا بتغيير معاني المصطلحات، وأخضعناها لشروط الوصاية الذهنية وتربص الفرص تحت المسميات لكي يفرض كل طرف موقفه ويمنع نفسه عن التعرف إلى موقف الطرف المقابل أو يمنع نفسه عن شرح وجهة نظره لغيره، لا للإقناع ولا للوصول إلى كلمة سواء، ولكن لكشف حقائق المواقف وماهياتها، أي أن النقاش غرضه أن يفهم بعضنا بعضاً، والحوار هدفه أن نكشف أبعاد التباينات ونجعل الأفكار تتجاور بعد أن تتحاور، هذا هو الأصل لبناء ثقافة الفهم والتعدد، ولكن تلبيس الألفاظ على غير معانيها يفسد كل الغايات.