مرت صورة المرأة تاريخياً لتكون غياباً ثقافياً خاصة في فضاء الكتابة بما إن الرجل هو القلم ومن ثم فقد صاغ الخطاب وصاغ المعجم الدلالي تبعاً لوجوده المركزي، في حين كانت المرأة أمية وظلت على أميتها إلى العصور الحديثة حين سمحت لها الثقافة بأن تدخل للمدارس وتخط بأناملها حروف الأبجدية الأولى، ولكنها تدخل ضيفة خفيفة الظل على إمبراطورية الرجال، فهم قد احتلوا اللغة منذ قرون وحددوا معانيها ونحوها ومعجمها ودلالاتها.
ولكي نتصور وظيفة اللغة في صناعة الحضور أو الغياب، فعلينا استحضار رباعية الغزالي، وتقوم الرباعية على أربع درجات للحضور، أولها التصور العيني كأن يكون هناك شجرة مثلاً، ثم تنتقل الصورة العينية إلى صورة ذهنية بما إن العين تنقل ما تراه إلى الذهن فيتطابق العيني مع الذهني، ويقوم اللسان بنطق الاسم المخصص لهذه الصورة، فتأتي كلمة شجرة وتدرج على اللسان، وهذا عمل مشترك تمارسه المرأة والرجل بلا تمييز بينهما، ولكن التمييز كان يحدث حينما يتمكن الرجل من كتابة كلمة (شجرة) بينما تعجز المرأة عن ذلك، وهنا يحدث تمييز كان سهلاً في بدايته وظاهره، ولكنه تعقد مع الزمن ثم تشكل كتمييز طبقي وفئوي وجنسي وعقلي، هذا ما أحدثته سيطرة الرجل على الكتابة.
وحينما تمكنت المرأة أخيراً من القلم وشرعت تمارس حقها في أن (تكتب) أخذت تخط حروفها الأولى في دفتر الوجود الثقافي، ولكن الفارق ضخم جداً وكبير جداً ومعقد جداً، ذاك لأن الكتابة قد تم احتلالها منذ قرون من الرجل وصنع الرجل ملاحمه على كل شروط اللغة، وسأذكر هنا شرط (الصفات)، وأجري على الصفات مقياس الغزالي عن الوجود الرباعي للتصور اللغوي، وعبر هذا سنرى خطورة لعبة الصفات حينما تحرم منها الأنثى، مثلاً كلمات: إنسان، أستاذ، دكتور، بروفيسور، مدير، عضو، رئيس.
والصفات المذكورة هذه كانت ملكية خاصة للرجل كوظائف أولاً وهذا وجودها العيني ثم كلفظ ثانياً وهذا وجودها اللفظي، ثم وهو الأخطر وجودها الكتابي، حيث تستقر هذه الصفات عبر الكتابة لتتحول إلى المنطوق ثم المتصور الذهني والعيني.
وتظل المعاجم كما المؤسسات ترسم المفردات هذه بصيغتها المذكرة، فيقولون عن المرأة عضو مجلس الشورى، وليس عضوة، والأستاذ الدكتور وليس الأستاذة ولا الدكتورة، والمدير والرئيس والوزير، ونائب الوزير. ثم يقولون إن كلمة إنسان تشمل الاثنين رجلاً وامرأة، ومثلها باقي الصفات: أستاذ، عضو… إلخ.
والطريف أن النساء قبلن ويقبلن بهذه الإقصائية ولا يجدن حرجاً من حرمانهن من الصفات، أي حرمانهن من الوجود الكتابي الذي يترتب عليه خروجهن من الوجود اللفظي ثم الذهني، وأخيراً العيني، والمرأة حينها ستكون أنثى في جسدها، ولكن صفاتها ذكورية، ومنصبها ذكوري، وصورتها الذهنية ذكورية، وتصبح في وظيفتها وفي عملها مجرد تفريع ثانوي عن الرجل لأنها لا تملك صفات تعزز موقعها العيني، وهكذا تقترف المرأة عدوانية ذاتية على معنوياتها وتقبل السجن اللغوي لتظل خارج الحق اللغوي في أن تتمتع بصفاتها المؤنثة، على أن القرآن الكريم قد منح المرأة صفاتها (المؤمنات القانتات… إلخ)، وفي الغرب صاروا يركزون على قول القارئ والقارئة، وتعديلات أخرى، مع بقاء بعضها من دون تعديل مثل كلمة دكتور، بينما عربياً نستطيع قول دكتورة (إلا عند من لم يرغبن باكتساب صفاتهن ووجودهن اللغوي)، وفيما يخصني فقد دأبت في بحوثي على تعبيرات مثل: المرء والمرأة، الإنسانة، عضوة المجلس، نائبة الوزير… إلخ.
وهذه رمزيات أساسية لتعديل مسار اللغة من الإقصاء والنفي إلى الحضور.