في معظم القصص العاطفية نجد دائماً المرأة هي الأكثر تفانياً. ماذا لو ذهبنا معاً إلى بلاد الهند في فترتها المغولية، واكتشفنا شيئاً آخر يغير جذرياً هذه المسلمات التي في أذهاننا؟ هناك رجال تفانوا حتى النهاية في المحبوبة. ما سأرويه اليوم، حدث في 1607، أي قبل خمسة قرون، وكأن إنسان اليوم الذكوري، نزل درجاً أكثر تحت الأرض. لم يعد بذلك الكبرياء وتلك الشهامة العاطفية.
تاج محلّ. لا يتعلق الأمر بمعلم فقط، ولكن بالقصة العظيمة التي تتخفى وراءه. تاج محل هو في الأصل ضريح مدهش الهندسة، شيد من الرُّخام الأبيض، أي المرمر. في موقع جميل. يُشرف على مدينة أكرا الواقعة شمال غرب الهند، التي كانت عاصمة السّلاطين المغول، لدرجة إن وصفه الإمبراطور شاه جهان الذي شيده لزوجته أرجمند بانو (التي ستصبح ممتاز محل) «إذا لجأ إلى هذا المكان شخصٌ مُثقَلٌ بالذّنوب، سَيتطهّر من ذنوبه، كالمغفورة له خطاياه. وإذا لجأَ الآثِم إلى هذا القصر، سَتنمحي جميع خطاياه السّابقة».. وراء كل هذا السحر واحدة من أجمل القصص الإنسانية بين الإمبراطور شاه جهان، ابن الملك جهانكير وزوجته ممتاز محل. كل شيء بدأ عندما لمح الإمبراطور الذي كان وقتها أميراً، فتاة جميلة، من طبقة النبلاء، يعمل والدها داخل القصر الملكي. كان اسمها أرجمند بانو. شعر يومها بأن شيئاً منه لم يعد ملكاً له. فقد سحرته لدرجة أن حياته أصبحت تسير بتوقيت حبها. وانتظرها خمس سنوات بسبب صغر سنها، قبل أن يتزوج بها وتنجب له أربعة عشر مولوداً. فقد كانت مفضّلته. منحها الإمبراطور شاه جهان اسماً جديداً يليق بمقامها «مُمتاز محل» الذي يعني جوهرة القصر. رافقته في كل أسفاره في الإمبراطورية المغولية الواسعة. وعلى الرغم من هذه الحظوة لم تكن تهتم بالسياسة والسلطة. كان يكفيها حبه الكبير وعطفه عليها. كانت كل شيء بالنسبة إليه. ظلت سيدة العشق كله. المأساة تبدأ في عام 1630 حينما رافقت ممتاز زوجها في آخر حملاته لتقف بجانبه في حروبه، وكانت حاملاً. تتعسر ولادتها، وتواجه خطر الموت. بعد وفاة والده جهانكير، كان على شاه جهان الدفاع عن حدود أرضه أمام الطامعين، فكانت الحروب والقلاقل. في خضم هذا الوضع بدأت معاناتها فتطلب منه الوفاء بوعدين: أولاً أن يظل وفياً لها حتى اللحاق بها، وألّا يتزوج بعدها. ثانياً أن يشيد لها ضريحاً يتذكرها الناس به أبداً. ينعزل نهائياً بعد وفاتها. في ظرف أقل من سنة، ابيضّ شعره، وشاخ بسرعة وانعكف ظهره. رفض الزواج على الرغم من إلحاح أبنائه. وبدأ في تنفيذ الوعد الثاني. فبنى ضريح تاج محل. معلم استثنائي يَجمع بين الفنّ الهنديّ والفارسيّ والإسلاميّ، من الرُّخام الأبيض الذي يتغيّر لونه اعتماداً على انعكاس ضوء الشّمس، أو ضوء القمر على سطحه. هذا الرّخام مُطعَّم بالفيروز، والتّبت، واللازورد، والليس، واليشم، والكريستال. واستناداً إلى التقاليد الإسلاميّة يتكوّن تاج محل بشكل رئيسيّ من القِباب والمآذن. وقد وَصل ارتفاع القبّة المركزيّة فيه إلى 73متراً، تحيطها أربع قِباب صغيرة، وأربع مآذن في الزّوايا، وقد كُتِبت آياتٌ من القرآن الكريم على المداخل المُقوَّسة للضّريح، أمّا البوّابة الرئيسيّة فهي من الحجر الرمليّ الأحمر. في الدّاخل توجد غرفة تحتوي التابوت الذي يضمّ رُفات ممتاز محل، وهي غرفة مبنيّة من الرُّخام، ومُزيَّنة بالنّقوش والأحجار الكريمة. مواد بنائه جُلِبت من أمكنة كثيرة. جيء بالرّخام الأبيض الشّفاف من راجستان. اليشم من البنجاب. الكريستال من الصّين. الفيروز والتبت والليس من أفغانستان. الياقوت من سريلانكا. والعقيق من الجزيرة العربيّة.
عندما انتهى من تشييده شعر شاه جهان بأنه بإمكانه أن يموت مرتاحاً. لكن ابنه أورنكزيب سرّع في الأحداث، فشكل في 1657جيشاً قوياً وانقلب على والده، فعزله عن العرش، إلى أن توفّي شاه جهان في عام 1666، ووُضِعت جُثّته في ضريحٍ بجانبَ زوجته مُمتاز محل بناء على آخر وصاياه. لكن السياسة الإسلامية المتشددة لحكم أورنكزيب، التي شاع فيها هدم المعابد والمُقدّسات الهندوسيّة، وإهمال تاج محل حتى لحقه الخراب. هذه السياسة الجافة أدت إلى انهيار إمبراطوريّة أورنكزيب في مُنتصف القرن الثّامن عشر. لم ينقذ الضريح إلا بمجيء اللورد كُرزون، نائب الملك البريطانيّ، الذي أمر بترميمه، وإعادته إلى حالته الأصلية كمعلم إنساني ممجّد للحب العالي.