إن كانت الأبحاث في علم النفس تفيد بأن قراء الأدب هم أكثر الناس عرضة للوقوع في الحب...
فماذا عن الأدباء إذن!
في روايتي «فوضى الحواس»، يصف الكاتب شخصيات خلقها على قياس قناعاته، ووضع على لسانها كلماته، وجعلها تتصرف بحسب أمنياته، وبعد أن صقلها حد الكمال، وقع في حبها وتمنى لو بُعثت فيها الحياة، فيصادفها في قاعة سينما، أو في مقهى، فيقول تحت وقع المفاجأة «كم اشتقتك».
في أسطورة بيغماليون، الفنان الذي برع في نحت تماثيل من العاج والحجر، فبدت مخلوقات حية من لحم ودم. حدث ذات مرة أنه نحت تمثالاً لامرأة فائقة الحسن ظلّ يجمّلها يوماً بعد يوم، حتى وقع في حبها وما عاد يتحمّل فراقها. العجيب أنه كان معروفاً بشدة كرهه للنساء، ورفضه فكرة الزواج، حيث إنه يرى النساء سبب كل ما يحل بالرجال وبالعالم من مصائب.
انتهى به الأمر أن شقي بما أبدعت يداه، وراح يزداد تعلّقاً بتمثاله، حتى غدا ضحية تحفة هو من خلقها، ولا أمنية له إلا أن تبعث فيها الحياة. إلى أن أشفقت عليه فينوس آلهة الحب لفرط تضرعاته، فبعثت الحياة في تمثاله، وحوّلته إلى امرأة حقيقية.
الأسطورة تنتهي بزواج بيغماليون بـ«أنثاه التمثال» فائقة الجمال والكمال والتي رزق منها صبياً. لكنها تخفي عنا احتمال أن يكون قد كسر إزميله بعد أن أصبح حلمه واقعاً. فالفن ابن المسافة والحرمان، وابن المستحيل والخيال، لذا يغتاله الواقع.
لأمين نحلة قول جميل في تعريف الفن «ولد الفن يوم قالت حواء لآدم ما أجمل هذه التفاحة» الفن هو المسافة التي تفصلك عن شجرة التفاح، وانبهارك الأول وأنت تتساءل أي فاكهة هذه؟ تساؤلاتك.. فضولك.. مخاوفك.. هوسك، هو ما يفجر ينابيع الإبداع. أما أكل التفاحة فهو نهاية الترقب الجميل.
قبل بضع سنوات، دعاني شاعر سعودي كبير هو وزوجته الجميلة للعشاء في بيروت، واستنجدت بي زوجته بخفة دمها لأقنعه بالعودة إلى كتابة قصائد جميلة في الحب، كتلك الخالدة التي نظمها فيها قبل الزواج، ويحفظها ويغنيها الملايين، وبدل أن أقنعه، أقنعتها مازحة بأن تختلق خلافاً معه وتذهب لبيت أهلها ولو «ليلة» لتمنح الشعر مسافة الاشتياق والاشتعال، فيهدينا قصائد رائعة أخرى، وكان في ضحكته ما يشي بورطته الشعرية.
أسطورة بيغماليون دليل آخر بأن الحب يغيّر قناعاتنا، فما كان بيغماليون يرفضه بشدة، غدا وهو عاشق يريده بهوس وإصرار، وهي تؤكد بأن ما من فن إلا ويستدرج صاحبه حيث لا يتوقع، فلا يعد يميّز بين الواقع والخيال.. الدليل على ذلك، كل قصص الحب التي ولدت على بلاتوهات السينما بين ممثلين كانا يمثلان دور عاشقين في فيلم، وإذا بالمشهد يمتد إلى الحياة بعد أن أخذا السينما مأخذ الحياة، ثمّ بعد ارتباطهما أخذا الحياة مأخذ السينما.
ونحن نمثل الحب ونكتب عنه نقع في حبّ الحبّ، لأن الفنّ يجمّله ولأننا نرتقي حين نكتبه، ولا ندري بعدها كيف نتبيّن موطئ قدمنا بين الواقع والخيال. فالحب يولد في خيالنا قبل قلبنا، لذا حين يستيقظ الشاعر من خيالاته، ويقع من علياء أحلامه، يقول مع كمال الشناوي:
«كوني كما تبغين لكن لن تكوني
فأنا صنعتك من هواي ومن جنوني
ولقد برئت من الهوى ومن الجنون»