مرت علينا ذكرى رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش، هادئة كهدوء الصيف، ساخنة كيوم رحيله قبل عشر سنوات، وتنشيطاً للذاكرة فقد رحل في أحد مستشفيات أميركا، وقام صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة (حفظه الله) بإرسال طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى الأردن ومنها إلى رام الله.
أقدم درويش على عملية خطيرة، وقد أوصى ألا يترك على الأجهزة إذا مات سريرياً، فقد آمن بقدر رحيله، ولم يكن يريد أن يتدخل الطب لتأجيل إعلان الوفاة، رغم الوفاة، وكان له ما أراد ومات وحيداً بالغربة كما عاش وحيداً، متعلقاً بالحياة مردداً (على هذه الأرض ما يستحق الحياة).
كان لقائي الأول بمحمود درويش في «تلفزيون أبوظبي»، وعلى الرغم من أننا كنا معه قبل اللقاء، إلا أنني والأديب أنو الخطيب فوجئنا برغبته بأن نكون معه في الاستوديو معللاً ذلك بخوفه من الكاميرا، وعلى الرغم من شكي أول الأمر بما قال، فدرويش الذي يقرأ الشعر أمام الجماهير والآلاف من المستمعين في الأمسيات، لا يمكن أن يخاف الكاميرا، ولكنه أشار إلى أن الأمر طبيعي بعد أن عرف بأن كوكب الشرق أم كلثوم كانت تخشى الجمهور في أول حفلتها، إلى أن تستعيد ثقتها فيصبح الأمر طبيعياً.
بعد ذلك اللقاء تعددت اللقاءات في أبوظبي والأردن، ولم أجد علاقة بين الموت ومحمود درويش، فلم يكن غيابه يشكل غياباً عندي، فقد كانت دواوينه في مكتبتي، وأشعاره في ذاكرتي، تجعله قريباً مني تماماً، حتى أن خبر موته الذي وصلني وأنا مع المجموعة الثانية في مسابقة «أمير الشعراء»، وهم يستعدون لاختبارات القبول النهائي، فما كان مني إلا أن استعرت غرفة أحد الشعراء وكتبت مرثيته التي لم تأخذ مني وقتاً كبيراً، فقد كان حاضراً في القصيدة، كما كان حاضراً في الذاكرة (أنشر مقطعاً منها مع المقال).
غادر إذن قبل عشر سنوات هيكل الطين لمحمود، غادر صوته المباشر وبسمته المباشرة، أما الإنسان العطاء والكيان، فما زال محمود يستمع إلى أحاديثنا، فيلقمنا شطراً من شعره كلما اقترب الحديث من صورة مرت به، وكلما كان الحديث عن فلسطين، رأيناه قامة أمامنا بكل كبرياء الرجل الفلسطيني، والمثقف العربي.
وكان آخر لقاء لي بعد رحيل هيكل الطين، في مسرحه وقبره وشعره وصوره في رام الله، ذلك النصب الذي يليق بمحمود القامة الشعرية الأبرز في العالم العربي، والوفود التي تأتي إليه من أدباء وطلبة مدارس، جعلت مسرحه من أهم الأمكنة التي تزار في رام الله، ومن أجمل الأمكنة التي تبقى في الذاكرة، فكما هي فلسطين جميلة، فإن قبر محمود يشكل جمالاً مضافاً، وحياة تنافس الأحياء.

شعر

كتبَ الوترْ.. عزفَ الوترْ.. سكتَ الوتر      أتقول غادرنا صباحاً

هذا الفتى القرشيُّ يأكلُ من كتابتهِ السهرْ    دون أن تعطي الصباحَ ظلال حزنٍ أو كدرْ

هذا الفتى القرشيُّ يرعى                   أتقول مملكة العيون مساؤه

من مواسمهِ المطرْ                         ورياحهُ عبرتْ

(قد مات).... ويحك يا فمي!!            وما قلتَ اهتدى للريحِ

أتقول ماتَ بلا حذرْ                        ما قلتَ انتصرْ