لا تَقُل لي أحبّك، ثم تُقبّلني كما العادة عند عَتَبة البيت، مثل سارق النار، هذا أعرفه، وشربتُه برفقتك عندما جَفّت المدينة وأخافت ساكنيها. لا تقل لا هذا ولا ذاك، ولا حتى ما تنوي قوله لي وحضّرته في طريقك لكي تُدهش طفولتي الهَشّة. لا. لا أطلُب أكثر من أن تمنحني سرّ خطيئتك الأولى. أن تحبّني كما العصافير والفراشات والزهور ومَوْج البحر. أريد فقط أن تُلوّن لي المستحيل بحُبّك، لأدوخ مرّة أخرى بين يديك، وأنسى جاذبية التِّيه. لستُ سمكة تفسد من رأسها، لكني امرأة تموت أولاً من قلبها. أريدك أن تُغرقني في حرير أصابعك حتى قبل أن تلمسني، وأن تُشعل موتي لأستيقظُ فيك من جديد. حوّلني إلى رماد، اسْحَقْني كما التربة المحروقة عشقاً ثم ازْرَعْني فيك. أنت أمام امرأة لا عين بريئة من حرقها، ولا يد ليس فيها من دمها. اسْحِرْني فقط، واسْحَبْني نحوك من بعيد، وقل لي ما لم تقله للغيم ولا للطير ولا للمطر إذ يُعاتب نسيانك وغيابك. شَتّت كل ما يسجنني وحرّرني فيك. منذ أن غادرتك قبل مسافة، وأنا أعيش على جنون عطرك، ودَوْخة عَرَقك، وتَصَيُّد كل خبر يَخصّ قلبك فقط لأقول، حبيبي ما يزال هنا، وما تزال تربة الطفولة في كَفَّيه. فكيف يخون العاشق تربته التي أعطيته يقين الغواية وجُنون التِّيه؟ أسكنُ فيه برضاي، فلا تَلُم قلبي الذي اختار الانتفاء فيك. أي سلاح تملك في سرّ سوى قلبٌ تخفيه من الموت كل يوم إلى حين وصولك. جئتك حبيبي فقط لأشعر بأنك لم تَعُد لغة يتقاسمها مَن أحَبّوك، ولكنك مَلمَس وحياة، كما أنك لستَ جملة هاربة في كتاب عاشقة تشتهي أن تفتح أبواب عزلتها وتلوّن المستحيل. ستضحك منّي. هذه أنا ولا ظل ورائي سوى ظلّك. ولا سلطان لي عليك إلّاك. أشتهي الليلة أن أكون فقط قطّتك التي تلعب بكرة الحرير، وتُبعثرها أمام عينيك عن آخرها، ثم تتأملها قبل أن تقفز على خيوطها، غير مَعْنيّة بالنظام ولا برأي من يرصدها. أريد أن أرفع هذه الكأس البيضاء بعطر الغياب واليانسون، نَخْبُك، وأنسى كل الخوف الذي يسرقني منك. أن أرفعها نخب اليوم الممطر الذي لم ينتظرني حتى ألبس له معطف الشتاء وأعبُر رياحه وساحته، ولا لوز الربيع ولا حتى مَطريّة الخريف. فاجئني كما تُفاجئ عاشقة حبيبها في غَفْوة لم ينتظرها.
اعذرني حبيبي. امنحني فرصة. ألستَ أنا إذ أتراءَى غِيّاً وهَبَلاً فيك؟ مثلاً، أن أتَخفَّى وراء زجاجة الشَّهْد التي تجمعنا على الشوق، فقط لأرَى وجهك في دوار اللحظة، في غفلة منك، وألمَح هزّات قلبك وضياعه. وأقطفك كما الزهرة وأنت في دوار الحنين. حِنّ إليَّ فلا وقت لنا. دِقّ العمر على باب الرّحيل. هل أصرُخ؟ أم أصمُت لأراك فقط كما اشتهيتك قبل 50 سنة، وأنا طفلة تُخيفها الشمس والغيوم وقطط الحارة. هل حسبت الوقت الذي يفصلنا؟ هل شممت بوصلة الرحيل القاتلة؟ ليس مُهمّاً يا هَبَلي. لن أطلب منك ما لا تستطيع مَنحهُ لي. اسمح لي بأن أتمدّد قليلاً على قلبك فقط لأشعُر بأنه ما يزال هنا، وبأنه يعرفني إذ يشم عطري ويهتز لي حينما يُلامسه خفقي.
امنحني فرصة امتحان قلبي لأشعر فقط بأنك لستَ بعيداً عنّي، وأنّ كل ما مضى من خوف مات في ظلّ الموت. هذا الزمن الجميل ليس في مقدوري أن أوقف انسحابه، ولا أن أمنعه من الخروج، لكنّي أملك سلطان أن أُسْكِنَهُ عَرْشي إنْ هو رآني كما أراه.
لا تقل شيئاً حبيبي، دَعَني فقط ادْفِنِّي فيك، وامَلأني بِكَ لكي لا أندم يوماً على فعلٍ نسيت أن أفعله، وعلى حرقةً أخفقتُ في أن أشعلها، لكني لم أستسلم لطائر الشُّؤم وعَصْف ريح الشمال التي كلما قلت وجدتُ أخيراً حبيبي، سرقتك منّي. لستُ امرأة اليأس وإنْ ارتديت كفناً في حزني وبحثت في كل ثانية عن وجه يشبهني. فليس في الحب إلّا ما يُدهشني ويرميني فيك ثم يمضي. دعني أسمع دقات قلبك لحظة يُجَنُّ بي، ولا يصغي لأحد غيري. قُل لي أنتِ لي لكي أهدم كل عَرْشي وأسْكُنَك. قل لي ما لم تَقُلهُ مِن قبل لغيري، أو اصْمُت ودَعَني أقرأ كل أمْكِنَتي ونيراني فيك. لا تعتذر عن حُب خُلق على مقاس عاشقين، لن يركب على غيري وغيرك.
حبيبي. امنحني بصرك لأراك، وقلبك لأحبّك، ولذّتك لأرضيك وقوّتك لأهزّك. لوّن مستحيلي، وامنحه غَيْماً يُظلّلني وفرَحاً لي، مِلْكي لا أحد يُشاركني فيه. أتعبتك حبيبي، اعذرني. من يسكن المستحيل لا يلوم الممكن. إنها تُمطر، وأنا ما زلتُ في الشارع الخلفي أركض نحوك، وأتَخَيَّلنِي أفتح باب غفوتك وأدخل بلا استئذان. حلمي اليوم أن أفاجئك كما فاجأني الغيم والمطر وأنا بلا معطف ولا مطرية، ربما استطعت أخيراً أن أتَدَثَّر بِكَ مِن رَعْشة البرد، وأنام طويلاً وعندما أستيقظ أرَانِي فِيكَ.