لا أظن الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، كان جاداً حين قال: «الفراشة المحترقة أروع بكثير من الفراشة الجبانة»، لعله قول شعريّ، كان سيقول عكسه لو شاهد منظر فراشة وهي تحترق. كلّ صيف أتورط مع الفراشات الليليّة في أسئلة لا جواب لها. عَبَثَاً أقول، إنني لست معنيَّة بقدرها، بعد أن عجزت عن منعها من الاحتراق.
«هل يمكنك أن تحمي أحداً من قدره؟» سؤال قلَّبته فلسفياً ودينياً وعشقياً، فزادتني تأمُّلاتي حزناً. أيكون البعض منا مبرمجاً للذهاب نحو هلاكه؟ لماذا تنجو فراشات الحقول وتموت الفراشات الليلية محترقة بالضوء؟ الفراشة الليليّة تنام وتموت فَارِدَة جناحيها مستسلمة لقدرها، من دون أن تكون قد حطت على زهرة، أو لهت لبعض الوقت بين المروج، أو ارتدت ليوم ثوباً للبهجة. الدقيقة في حياة فراشة تساوي 3650 دقيقة من حياتنا. لكأنها جاءت فقط لتموت ليلاً مأخوذة بالنور. لكن، قبل أن توجد الكهرباء، أين كانت تعثر الفراشات الليليّة على قاتلها؟ وهل كانت تموت حزناً لأنها ترحل من دون أن تُزفّ للضوء؟ وهل الدقائق التي تقضيها على الأرض في انتظار «محرقة الحبّ» تبدو لها قصيرة، أم طويلة بما يعادل سنوات من الترقُّب بالنسبة إلى امرأة عاشقة؟ أهي مَن قالت «والثواني جمراتٌ في دمي»، أم نحنُ النساء؟
كأُنثى، أتعاطف مع الفراشات، وككاتبة، أُطالب بسمائها سقفاً لحريتي. فـ«حتى تحليق الفراشة البسيطة يحتاج إلى السماء كلّها»، حسب پول كلوديل، الذي على الرغم من قوله هذا منع أخته كامي كلوديل ذات الموهبة الخارقة في النحت، من التحليق بما يليق بموهبتها من حرية. فيوم أحبت النحّات الشهير رودان، الذي خلّدها في أروع تماثيله كتمثال «القبلة» الشهير، لم يتردد في التواطؤ معه، وبعثا بها إلى مصحّ عقلي حيث أنهت حياتها.
أتولد الفراشات وبها لوثة من نور؟ وشهوة للحرية، لذا تفضلّ الاحتراق على الاعتقال.
أُراقبها تأتيني مع الأمسيات الصيفية، عندما ليلاً أفتح نافذة شرفتي التي حوّلتها إلى مكتب أقضي فيه جلّ ليلي، فتهجم على مصباح ذي الإضاءة العالية.. والعارية، فتصطدم بلمباته فائقة الحرارة. وفي دقائق تتساقط أرضاً الواحدة تلو الأُخرى، أو تبقى عالقة بالمصباح، تاركة في الجوّ رائحة احتراق جسدها الصغير.
المعضلة، في كوني أحتاج إلى إضاءة قوية للكتابة، حتى أبقى مستيقظة. فأنا لا أكتب إلاّ ليلاً. ثمّ إنّ موجة الحرّ التي عرفتها فرنسا في الأعوام الأخيرة، ومات بسببها عشرات الأشخاص، تجعلك مرغماً على فتح النوافذ، بحثاً عن نسمات الليل.
وهكذا، كلَّ مساء أجدني أمام الخيارات الثلاثة إيّاها: أن أغلق النافذة وأختنق من الحرِّ، أو أفتحها فتحترق الفراشات، أو أُطفئ الإضاءة القوية فأستسلم فوراً للنوم، وأخسر ليلة كتابة.
أمام جثة أوّل فراشة، أحسم قراري، ليذهب إلى الجحيم هذا النصُّ الذي كنت سأكتبه، إن كانت كتابته تستدعي موت سرب من الفراشات. كيف لي أن أسعَد به وأن أدّعي بعده أنني «شاعرة»، إن كنت أدري أنني دوّنته على غبار أجنحة الفراشات المحروقة، التي دخلت بيتي مبتهجة فسلّمتها إلى حتفها؟
ناباكوف، صاحب رواية «لوليتا» الشهيرة، كان شغوفاً بالفراشات، يهوى جمعها وتجفيفها، حتى إنه نجح في اكتشاف فراشة جديدة لم يكن قد عرفها أحد من قبل، فأطلق العلماء عليها اسمه. أمّا أنا فلا يعنيني أن يُطلَق اسمي على فراشة، أُفضِّل أن يُقال إنني كاتبة لم تؤذ فراشة بقلمها، لكنها ظلّت حتى آخر عمرها تحارب التماسيح وأسماك القرش، والثعالب.
يحضرني قول المسرحيّ اللبناني الكبير ريمون جبارة «أنصح كلَّ الأهل بأن يُعلِّموا أطفالهم كيف يرسمون فراشة، لأن الذي يرسم فراشة لا يقتلها، وبالتالي لا يقتل الناس».
ليت القتلة تعلّموا صغاراً رسم الفراشات!