الحديث يبدو شيقاً حينما يكون عن تاريخ السينما، صناعة وفناً ومستوى الانعطافات والمراحل التي مرت بها، بقدر ما سيكون أكثر غرابة وتشويقاً حينما ينحصر في الحديث عن «السيناريو» ذاته ودوره في كل هذا التاريخ السينمائي الممتد لأكثر من مئة سنة، والأثر الذي كان يتركه في حركة السينما وتوجهها مما يجعلنا نستسيغ القول بأنه.. في البدء كان هناك سيناريو!
فأول فيلم سينمائي كما يذكر الكثير من المؤرخين «خروج العمال من مصانع لوميير» للأخوة لوميير عام 1895.. لم يكن عفوياً.. بل كان هناك سيناريو مسبق ليس بالضرورة أن يكون مكتوباً وهو ما يتكفل في «تجهيز العمال وترتيبهم وتوقيت خروجهم» وعلى الرغم من أن غياب البحث التاريخي حول السيناريو أعطى انطباعاً مغلوطاً حول ضرورة السيناريو في بداية السينما إلا أن شيئاً من البحث والتقصي سيكشف عن أهمية السيناريو ودوره الكبير، وهو ما برع فيه الكاتب جان بول توروك في كتابه الرائع «فن كتابة السيناريو» والذي ترجمه للمكتبة العربية الأستاذ قاسم المقداد.

نابليون السينما

حيث يشير جان بول توروك إلى أن الفرنسي شارل باتيه (1863-1957) والذي يلقب بنابليون السينما، والذي أسهم في وجود السينما عام 1903 واحتكر صناعتها، كان لديه في شركته كل ما يلزم لإنتاج الأفلام إلا أنه كان يفتقر لوجود (قسم للسيناريو) وكتاب محترفين.. فيما كان الاهتمام منصباً فحسب على تجميع الأفكار، والذي كان يتم بطريقة طريفة، حيث يتم جمعها عبر النافذة الشهيرة في مصانع «فانسين» حينما كان يتوافد عليها الصحافيون العاطلون والكتاب والمؤلفون لينتظروا في صف طويل كل صباح وهم يحملون قصة قصيرة من تأليفهم ويتم شراؤها بخمسة وعشرين فرنكاً حسب جودتها، وهو الأسلوب الذي مارسته شركة «غومون» أيضاً عام 1911 وكانت تتكدس الكثير جداً من الأوراق ذات الأفكار بصفحة وصفحتين وأكثر مما لا يرغب بها المخرجون أيضاً!
في الوقت الذي يشير فيه جان بول توروك إلى أن أول وثيقة يمكن اعتبارها نص سيناريو بالمعنى الحديث، تعدو لوقت مبكر جداً عام 1900 والتي كتبها أحد مساعدي باتيه ويدعى (جولي) في نص سماه «لولوت Lolotte» بحوارات وتقسيمات سليمة كما هي طريقة كتابة النص الحديث تماماً، ويحكي قصة رجل وزوجته يدخلان غرفة فندق ويتجادلان قليلاً حتى يحضر صاحب الفندق ليقوم الزوج برميه من النافذة في قصة بسيطة وطريفة لا تتجاوز الدقيقة تقريباً.

قصص حقيقية

ثم لنعود مرة أخرى في تراتبية تاريخية وتحديداً عام 1908، حيث سببت زيادة مدة الأفلام وطولها الذي تجاوز عشرين دقيقة صعوبة في الاعتماد على الأسلوب السائد حينها، والقائم على الاعتماد على الارتجال، مما دفع حينها لظهور الحاجة إلى قصص حقيقية ومعالجتها على شكل سيناريوهات متطورة ومفصلة، والذي سيساعد بطبيعة الحال على تنظيم التصوير وجعله أقل كلفة.. وهذا الأمر هو ما يؤيد الاعتقاد بأن «السيناريو» ظهر في أميركا حينما كانت مدة الأفلام أطول من نظيرتها في أوروبا وتحديداً فرنسا التي ترافق أميركا كثيراً في تكوين بدايات السينما.
كما لا يمكن تجاهل واقعة أنه في تلك الفترة أيضاً قام توماس إينس من كبار منتجي هوليوود بتعيين أول كتاب السيناريو المحترفين كمساعد له وهو غاردنر سوليفان، والذي سيعين أيضاً عام 1914 على رأس قسم السيناريو في شركة N.Y.M.P وبمساعدته سيرتفع مستوى تحول القصص إلى صور بشكل متقن بينما لا يزال مخرج كبير مثل الأميركي غريفيث والفرنسي فوياد يعتمدان في الإخراج على سيناريو عام، حيث يذكر أن الفيلم التاريخي الشهير لغريفيث «مولد أمة» (The Birth of a Nation) عام 1915 ومدته ثلاث ساعات وربع الساعة، كان في بضع صفحات مختصرة. ولذا فيمكن اعتبار توماس إينس أول من وضع فن التوليف الدرامي.

دور السيناريو

ولذا يعتقد الكثير من مؤرخي السينما بأن أحد أهم أسباب التفوق الكبير للسينما في أميركا على نظيرتها فرنسا في البدايات، كان التركيز على الدور الأساسي للسيناريو، وضرورة أن يعتمد المخرج على تنظيم سردي مسبق، مما دفع الفرنسي ليونغومون في إحدى رحلاته إلى أميركا أن يرسل عام 1920 إلى المخرج المنتج الفرنسي فوياد موصياً له بأن يعهد بكتابة السيناريو إلى «مؤلفين متخصصين» يعرفون بناء القصة ويحضرون تقطيعها لأنه رأى - مشدوهاً - أن هذا الشيء الذي يفعله الأميركيون بنجاح.
كما يذكر توروك في كتابه «أن اثنين من أبرز مؤلفي تلك الفترة هما من أسهما بشكل كبير في تطور القصة السينمائية وأثرا في من جاء بعدهما من مخرجين وكتاب أحدهما سبق ذكره وهو غاردنر سوليفان، والثاني هي فتاة عبقرية في سن السادسة عشرة تدعى أنيتا لوس، كانت قد كتبت فيلم «قبعة نيويورك» (The New York Hat) عام 1912 وأخرجه المخرج الكبير غريفيث، حيث يعد الفيلم مثالاً على السينما الجديدة ويذكر بسخريته الدقيقة بأعمال موباسان ومارك توين ويبشر بمجيء روائع شارلي شابلن، كما شكل تعاونها مع غريفيتي أساساً للأعمال السردية الرائعة مثل «فرسان بيغ آلي»، وقد كتبت أغلب السيناريوهات التي مثلتها الأختان غيش وجميع أفلام المخرج دوغلاس فيربانكس تقريباً، وكانت روحها اللاذعة وملاحظاتها الساخرة تمهيداً لظهور النفس الخاص الذي يقدمه كل من المخرجين الكبار فرانك كابرا وهاوراد هاوكس وكوكر».
كما يشير توروك أيضاً إلى أنه منذ عام 1914 حتى 1920 ظهرت موجة كبيرة من كتاب السيناريو أغلبهم من النساء! المتخصصات بقصص الرومانسية العاطفية، أمثال فرانس ماريون، التي جذبت اهتمام نجمة ذلك الوقت الممثلة ماري بيكفورد وفرانك بورزاغ وهيمنت على أقسام السيناريو في أكبر شركتي إنتاج في هوليوود «بارمونت» و«غولدن ماير»، وأخرج لها العديد من كبار المخرجين مثل هاوكس وفيكتور سسوستروم في قمة أعماله التي اقتبستها مثل «الرسالة القرمزية» و«الريح» وجورج هيل التي فازت من خلال فيلمه «ذا بيق هاوس» بأوسكار أفضل نص عام 1930 كما فازت في السنة التي تليها أيضاً بأوسكار أفضل نص عن فيلم كينق فيدور «ذا تشامب».