لعلّهم على حقّ الذين قالوا إنّ أجمل أشعار الحبّ كتبها من لم يقرب امرأة، وأجمل رسائل الحبّ كتبها من ليس لهم علاقة بالأدب.
وقعت على هذه الحقيقة، عندما اشتريت قبل عشر سنوات كتاباً صغيراً بالفرنسيّة عنوانه «أجمل رسائل الحب»، ضمّت أوراقه الفاخرة، المكتوبة عناوينها بخط ذهبيّ، أجمل ما كتبه نبلاء فرنسا ومبدعوها من موسيقيين، وكتّاب، وشعراء إلى حبيباتهم.
كنت أنوي الكتابة عن هذا الكتاب، غير أنّه اختفى من مكتبتي. اكتشفتُ لاحقاً أنّ وليد أصغر أبنائي، أخذه ليسطو على بعض النصوص التي كان يرسلها إلى صديقته قصد إدهاشها، بعدما اكتشف أنّ الفتيات يقعن في حباله الشعرية، حال شروعه في مغازلتهن بلغة عشقيّة لم يسمعنها من قبل. ولم أدر إن كان عليّ أن أفرح لولعه الأدبي، ولكونه عكس شبان جيله يفضّل أن يغازل صديقته بكلام قاله ألفريد دي ميسيه لجورج صاند في القرن الـ19، بدل أن يرسل إليها على الجوال إحدى أغاني عمرو دياب الصاخبة، أم أحزن، لأنّه ليس أبشع من أن تسطو على عواطف الآخرين بذريعة الحبّ، وتنسب أحاسيسهم إلى نفسك. فالذي يصنع اعتزازنا برسالة حبّ ليس بلاغتها، وإنّما كونها كُتبت لنا وحدنا.
أذكر أنّ أيام دراستي في الجزائر، حدث أنني قطعت علاقتي بزميل كنت ألتقيه في مكتبة الجامعة، وأشعر نحوه ببعض الميل، عندما اكتشفتُ أنّ قصائد الغزل التي كان يستعين بها للتقرب إليّ، ويضعها أحياناً على مكتبي أثناء المطالعة، كانت في الواقع مسروقة من مجلات أدبيّة مشرقيّة، مطمئنّاً إلى عدم وصولها إلى الجزائر، وكم كان ألمي كبيراً عندما وقعت في عدد قديم من مجلّة «الآداب» على قصيدة عنوانها «في المكتبة»، كنت أحفظها لاعتقادي أنّها كتبت لي.
ابني الذي كان ينهب تارة ألفريد دي ميسيه، وتارة يسطو على أشعار بيار دي رانسار، ليحافظ على قلب صديقته ما كان يدري أنّ أجمل مما قاله هؤلاء الشعراء جميعهم، ما كتبه نابليون وهو في ساحة الوغى لزوجته جوزفين. لكن كيف لابني أن يفهم هذا وصديقته تدعى نادين. ذلك أنّ اسم جوزفين نفسه ما عاد يناسب زماننا.
يقول نابليون في إحدى رسائله الشهيرة: «أنا لم أعش يوماً واحداً من دون أن أحبّك، ولم أمضِ ليلة واحدة من دون أن أضمّك إليّ، حتى عند احتساء قدح شاي وحدي لا أكفّ عن لعن الغرور والطموح، اللذين يجبرانني على البقاء منفصلاً عن روح حياتي المتحركة، حتى في غمرة واجباتي إذا كنت في مقدمة جيش أو كنت أقوم بتفتيش المعسكرات. معشوقتي جوزفين تقيم وحدها في قلبي.. تحتلّ عقلي.. تملأ أفكاري. إذا فارقتك بسرعة كبيرة فعسى أن ألتقيك بأسرع مما غادرت. وإذا نهضت للعمل في منتصف الليل، فإنّه من أجل أن أقصّر عدد الأيام التي تفصلني عنك».
في رسالة أخرى، يقول نابليون تلك الجملة المشتعلة شغفاً، التي لا تطولها فصاحة شاعر. إنها قصيدة من أربع كلمات: «جوزفين.. لا تستحمي إني قادم»، المشاعر الصادقة تأتي عارية، لا تحتاج إلى تنميق ولا إلى قافية.
أمّا رسائل الشاعر المعاصر ستيفان مالارميه، التي كتبها لحبيبته ميري لوران وصدرت قبل فترة في كتاب عن دار «غاليمار» الشهيرة، فقد أصابت القراء بدهشة الخيبة، لاكتشافهم لغة عادية لا تليق بمكانة شاعر في مقامه.
لنصدّق إذن، أنّنا عندما نعشق قد نفوق الشعراء فصاحة، وأنّنا لا نحتاج إلى السطو على كلماتهم لإبهار من نحبّ. فالشعر يوجد حيثما وُجِدَ الحبّ.. لكن العكس ليس صحيحاً دائماً!