ماذا لو... عاش بطل العالم الملاكم مارسيل سيردان الذي ولد في سيدي بلعباس وعاش في المغرب، والفنانة العظيمة إديث بياف، حياة عادية، وانتهى حبهما المجنون والعاصف إلى زواج وأسرة؟ سيكون كل شيء عادي ولن تحفظ الذاكرة الإنسانية بالشيء الكثير منهما. هي أرملة القدر القاسي، لهذا منحها القدر خلوداً داخل تراجيديا الفقدان. كانت تنتظره عاشقاً، فاختزل في خبر مفجع: مارسيل سيردان لن يلحق بموعد سهرتها في نيويورك. لقد شاء القدر شيئاً آخر له، ولعازفة الكمنجة المبهرة جينيت نو?و، والـ46 نهاية غير تلك المرتقبة. الذي جمع بينهما، وهما في قمة العظمة والنجاح، كان سريعاً وعاصفاً. سنتان فقط، 24 شهراً، كانت كافية لتصنع حباً غير مسبوق، أصبح على كل الألسن. لتتحول قصتهما إلى واحدة من أبهى قصص الحب في القرن العشرين، إلى أسطورة يرى فيها العشاق ظلالهم الخفية. التقيا صدفة أثناء دورتها الفنية في نيويورك في 1948. هي من باريس ببقايا عِرق لا يزال ينبض في داخلها من جدتها عائشة الأمازيغية، بينما يحمل هو في قلبه حرارة سيدي بلعباس وكازابلانكا، متعطش إلى الحرية. كل شيء بدأ في نيويورك إذ التقيا في مدينة هو كمدافع عن لقبه كبطل للعالم في الملاكمة، الوزن المتوسط، بينما كانت بياف تعيش في دوار المجد والشهرة بعد مأساتها الطفولية؟ قبلت به على الرغم من انشغاله بالبطولة العالمية في الملاكمة التي كانت تدفع به إلى تنقلات كثيرة وغيابات متكررة. وكانت هي في نفس المدارات القلقة، بسب فنها وعروضها الغنائية عبر العالم. وكما كل القصص التراجيدية العظيمة سيتوقف هذا الحب الكبير بسرعة.
في 28 أكتوبر 1949 يحدث ما لم يكن في الحسبان أبداً. أمر ظل يؤرقها حتى وفاتها إذ كانت تشعر بذنب كبير. هي التي نصحته أن يأتي بالطائرة ويتفادى الباخرة التي تستغرق زمناً طويلاً. فامتطى طائرة اللومباردر التي انطلقت من كازا (الدار البيضاء) في جو خريفي عاصف، ولم تصل أبداً. فقد انتهت على حواشي المحيط بسبب عطل فني طارئ. عندما افتتح عرضها الغنائي، مسحت القاعة بعينيها، لم تره. لم يكن يومها هناك. رأت مكانه الذي حجزته فارغاً. انتابتها كل الاحتمالات السوداء. لا يمكن لمارسيل أن يمارس هذه الخيانة المفجعة. لم تدم حيرتها، فقد وصلها الخبر القاسي. لم يبق أمامها إلا صوتها. غنت أغنيتين ظلتا في الذاكرة الجمعية إلى اليوم: يا إلهي، أتركه لي لليلة واحدة. والثانية نشيد الحب التي تحولت إلى نشيد للعشاق. كلما غنتهما استحضرت تلك الليلة المشؤومة التي سرقت منها الإنسان الأوحد على وجه الكرة الأرضية الذي يفهمها، ويحبها بصدق من دون أن يطلب منها مقابلاً سوى قلبها. ونمّى فيها حباً شديد الصفاء مكسواً بحرير ألم لا ينتهي. كتبت له، خمسة أشهر قبل وفاته: «حبيبي. هذه الليلة لم أستطع النوم، فقد كنت حاضراً في ذاكرتي لدرجة أن شعوري القوي بك، جعلك قريباً مني، ولم يكن عليّ إلا مد يدي لأحس بك قريباً مني. لا تستطيع حبيبي أن تتخيل درجة هبلي عليك. يا إلهي كم أحبك، وكم أشتهي الآن أن أسجد على ركبتي وأقضي عمري كله في تأملك، في خدمتك، وفي حبك. أن لا أكون إلا لك». كانت كمن يحس بقدر جارح كان يرتسم في الأفق، لهذا كان لا بد عليها من ترويض خوفها. ظلت ممزقة بين حبه لها لكنها في الوقت نفسه شاءت التراجيدية أن تعمق أكثر من إحساسها. كتبت له ثانية رسالة من كازا حينما تركها هناك واضطر للذهاب إلى نيويورك دفاعاً عن لقبه عبر جولات عالمية. كان ذلك في تاريخ 22 يوليو 1949. كانت عاشقة بجنون، ولكنها منكسرة داخلياً على الرغم مما كانت تظهره: «معبودي الحبيب. الكثير من الأشياء تتزاحم في داخلي، أريد أن أشركك فيها. كلما أنهيت رسالة أدركت كم أني نسيت آلاف التفاصيل الصغيرة التي كان يجب أن أحكيها لك. الشيء الوحيد الذي لا يمكنني نسيانه هو أني أحبك في كل لحظة أكثر، لدرجة أني أصبت بك بشكل جنوني. أصبحت أتحمل بصعوبة فراقنا المتكرر. وقلبي في كل مرة يتمزق أكثر... عندما أرى حبيبي، المكانة التي يحتلها أبناؤك الثلاثة في قلبك، ينتابني خوف كبير خشية أن تتضرر بسببي. لا أريد أن أكون معوقاً لقلبك. تتملكني أحياناً الرغبة في تركك والذهاب بعيداً، وأنا على يقين من أنك ستشكرني لاحقاً على ما فعلته من أجلك.. يشهد الله حبيبي أني لا أطلب شيئاً سوى أن أكون مستعدة لأي تضحية. تكفي رسالة، تليفون، أو أي صدفة بليدة، لينفضح أمرنا؟ ماذا سنفعل؟ كيف سيكون رد فعلك؟ هل فكرت في كل هذا حبيبي؟ مع أنه لا بد من التفكير في ذلك. لا أريدك أن تحمل لي يوماً حقداً بسبب ذلك، سيكون صعباً عليّ تحمل ذلك. قلبي يرتعد في كل دقيقة. وبما سنكون أخيراً سعداء في أميركا...» لكن سعادة أميركا لن تكون. سيتحول كل شيء إلى رماد ثقيل عجزت الأقدار عن تحويله إلى نثار. أغنية نشيد الحب التي صدحت بها ليلتها في نيويورك والدمع قطرات من لؤلؤ على وجهها، انعكست عليها الأنوار الملونة، مزقت كل الأغطية ورمت بهذه القصة في خضم الحياة، لتصبح ملكاً للإنسانية جمعاء.