كنت الوحيد في المقهى الذي لم يتشاغل بالجهاز الذي يُسمّونه ذكياً، ولاحظتُ هذا الرجل بجانبي ولم يكن معه جهاز أيضاً، ولعَلّ هذا ما أغراهُ ليَشرَع معي في حديث كلّه شجَن وشكوَى، وخُلاصة قصته أنه يعمل في سوق المال في لندن، وله مَوقعٌ مُتقدّمٌ، ولكنه ظل يُشير إلى كرشه المتمدد من حول الطاولة، ويقول هذا هو خلاصة الرأسماليّة. ثم استرسل يروي عن حفلات العشاء التي يتورّط فيها كل ليلة، وهي حفلات صغيرة تقتصر عليه وعلى شخص أو شخصين يأخذهما إلى مطعم راقٍ، بناءً على مواعيد مُرَتّبة ليشرح لضيفه أمور الاستثمار، ويُحاول إغراءهُ بالفرص المالية التي تُقدّمها شركته، وهذه عملية تضطره إلى السهر والأكل من دون حساب لصحّته، حتى ليأكل مُجاملة للضيف ويختار أكثر الأطعمة دَسَامةً وحلاوة، لكي لا يبدو أمام ضيفه أنه مُقْتِرٌ على نفسه وضيفه، ومع تَعاقُب هذه الدعوات صار كرْشهُ ينمو، وقلقه النفسي على صحته من جهة وعلى وظيفته من جهة أخرى، حيث هو في مُنافسة مع مندوبي مبيعات غيره، يُسابق بعضهم بعضاً في حصد الزبائن وتوسيع فرص استثمار شركتهم، ولكن الناتج له هو القلق والتكرّش، وقد جاء إلى المقهى ضُحَى ذلك اليوم لكي يرتاح قليلاً من لهاث العمل، ولهذا كان يكره الشاشة الصغيرة مثلما يكره منظر الأطعمة، ويتمنّى أن يجد راحة شخصية في التحدث والفرار من الوجَع الرأسمالي والجشع المادي الذي يُغرقه في مرض نفسي وجسدي.
لقد كان يتحدث معي وكلّه حَسَرة، ولم يكن بيدي له سوى أن أكون مستمعاً كريماً يواسيه بالاستماع، وأنا ألمَح من خارج النافذة منظر عمائر لندن الشاهقة، وأشعر كأنها شهادات على جَشع الرأسمالية وتسلطها على البشر ومصائرهم. وآخر جملة تأوّه بها صاحبي، كانت وهو يودّعني ويقول: «حين نكون على مشارف الموت سنشعر بأن كل ما جمعناهُ من مال لن يساعدنا في اللحظة الحاسمة»، تلك هي خُلاصة المعنَى الرأسمالي.