في مطلع عشرينات القرن الماضي وبدعم من إحدى شركات الفرو الفرنسية يذهب المخرج روبيرت فلاهيرتي - والذي كان قد أجهد نفسه في البحث عن رعاية وتمويل لرحلته - إلى منطقة القطب الشمالي حيث يسكن الأنويت من قبائل الإسكيمو ليتابع حياة رجل وعائلته والقسوة الشديدة التي تواجههم بها الطبيعة فيما هم يبحثون عن الطعام والملجأ. قضى روبيرت فلاهيرتي سنة كاملة في رصد حياة هذه العائلة ثم عاد بحصيلة تصوير صامتة ليقدم فيما بعد فيلمه الشهير «Nanook of the North/‏‏‏ نانوك الشمال»، والذي حقق وقتها نسبة مشاهدة عالية قياساً بهذا النوع من الأفلام، ثم يضع الفيلم نفسه كأحد أهم الأفلام السينمائية وأحد أساسيات الفيلم الوثائقي فيما يحتل المرتبة السادسة في قائمة International Documentary Association

(IDA) التي نشرت عام 2002 لأفضل 20 فيلماً وثائقياً في كل الأزمنة بينما يضعه الناقد روجر إيبرت ضمن قائمته للأفلام العظيمة!

ما الذي حدث فيما بعد؟ 

بقدر الإشادات الكبيرة التي حصل عليها الفيلم ومخرجه روبيرت فلاهيرتي، بسبب هذه الرحلة المتعبة، والتقصي الذي عمله بشكل جميل وأخاذ لا يخلو من تشويق وهو يرصد حياة عائلة نانوك والظروف التي يمرون بها وبعض الأحداث التي تبدو مثيرة، خاصة في مراحل الصيد وتتبع الطرائد، بقدر ما يتزايد الحديث حول ما لم يكن وثائقياً أو توثيقياً في الفيلم بشكل فعلي. حيث يزعم البعض أن هناك من التصرفات ما كان أمراً وتوجيهاً من فلاهيرتي لنانوك وعائلته حتى يقوم بالتصوير، وليس شيئاً عفوياً. فيما يبرز الفيلم رجل العائلة كشخص جاهل تقنياً تماماً فيما يقال إن الرجل حقيقة كان مدركاً للكثير من أمور التكنولوجيا والتقنية، وقد كان يساعد فلاهيرتي في تفكيك كاميرات التصوير وتركيبها. 

شخصية «نانوك»

بينما المرأة التي ظهرت كزوجة نانوك هي في الحقيقة ليست زوجته وإنما تم الاستعانة بها لتأدية هذا الدور، كما هناك شكوك في المقام الأول في اسم الشخصية «نانوك» ذاتها! ومع كل ذلك، لا يشك أحد مطلقاً بأن فلاهيرتي بالفعل ذهب هناك وعاش لمدة سنة كاملة راصداً لحياة سكان الإسكيمو وطبيعة المنطقة، وعاش تجربة إنسانية فذة، لكنه في النهاية قدم الفيلم وفق رؤية خاصة به.

من جهة أخرى فإن أحد أشهر مخرجي الأفلام الوثائقية الأميركي مايكل مور كان قد قدم أول أفلامه وأفضلها عام 1989 بعنوان «أنا وروجر /‏‏‏ Roger & Me»، والذي هاجم فيه الشركة العملاقة «جنرال موتورز» والضرر الذي أحدثته في ولاية ميشيغن حينما أغلقت مصنعها ليفقد أكثر من 30 ألف موظف في مدينة فلينت وظائفهم، بينما كان مايكل مور يسعى في الفيلم أيضاً إلى مقابلة الرئيس التنفيذي لشركة «جنرال موتورز» روجر سميث.

التمثيل الفني للواقع

كان الفيلم ينطلق من مبدأ إنساني قيمي، كما يحاول أن يبرز مور في أفلامه بأسلوبه الساخر الشهير، والذي أصبح ثيمة أفلامه اللاحقة، إلا أن صحافياً أميركياً يدعى هارلان جاكوبسون، أظهر تقريراً يبرز فيه أن مايكل مور في الفيلم قد غير من تسلسل الحقائق، مما حدا بمور إلى القول بأن ما قدمه ليس وثائقياً بل مجرد فيلم سينمائي ترفيهي لا يتأثر بتسلسل الوقائع!

تشير باتريشيا أوفدر هايد في كتابها عن الفيلم الوثائقي إلى أن الأسكتلندي جون غريرسون كان قد صاغ مصطلحاً «وثائقياً» بعد أن شاهد فيلماً آخر للمخرج الأميركي روبيرت فلاهيرتي هو «موانا /‏‏‏ Moana» والذي يسجل فيه فلاهيرتي وقائع الحياة اليومية على إحدى جزر البحار الجنوبية، ثم عرف غريرسون الفيلم «الوثائقي» بأنه (التمثيل الفني للواقع)! وهو التعريف الذي ظل دارجاً لفترة طويلة. بعد تسميات عدة مثل: «الواقعي» و«التعليم» و«فيلم الفائدة»، لكنه في كل الأحوال هو «النوع» الذي يمكن استثماره واستغلاله لتحقيق أهداف عديدة سياسياً واجتماعياً وتوعوياً ودعائياً، فضلاً عن الجانب الفني، ولذا فإن عائدات الأعمال الوثائقية عام 2004 كانت قد بلغت أكثر من أربعة مليار ونصف المليار، مما يعبر عن جانبها التجاري بشكل كبير.

الترويج التجاري 

ربما ما سبق يظهر لنا شيئاً من «معضلة» الفيلم الوثائقي.. ما بين الاعتداد المسبق بكونها انعكاساً واقعياً وتحقيقاً موضوعياً، وبين استغلالها كترويج تجاري فيما لا يمكن تجاوز النجاح الفني الكبير لهذا النوع من الأفلام والطرق المتباينة لدى المخرجين في تقديمها.