غلبت جاكلين ألم الفراق، وهي التي أبَى العام المنصرم أن يمرّ من دون أن يسلبها الأعزّ في حياتها، وحيدها «سمعان»، فأصبح لقب «أم سمعان» الأحَبّ إلى قلبها، وتفضّل أن تُنادَى به.
حوّلت جاكلين حزنها إلى طاقة، وتعهّدت بأن تكرّس حياتها لأصحاب الهمم، تحيّة منها إلى روح سمعان التي تسكنها. فجعلت من حزنها نافذة، مدّت من خلالها جسر عبور لهذه الشريحة التي همّشها المجتمع طويلاً، وأنشأت مقهى يعمل فيه شابّات وشبّان من أصحاب الهمم، في سابقة هي الأولى من نوعها في لبنان. خلسة من أحضان أُم ربّته، وعلى عَجَل أغمض سمعان عينيه، سرقه داء السرطان. أحست جاكلين بأنها خسرت العالم يوم رحل وحيدها، لكنها سرعان ما انتفضت ورفضت الاستسلام. مدّها بالقوة والدعم رفاقه في المدرسة الذين ظلوا يترددون عليها يومياً. شغلت جاكلين نفسها بجمع مساعدات إنسانية واجتماعية لتخليد ذكراه. فبعد «قجّة سمعان»، حيث تجمع المساعدات في حصّالة للنقود، وتمنحها كل شهر لمساعدة محتاج، تركّز حالياً على دعم أصحاب الهمم، من خلال مواكبتهم في يومياتهم وفي مراكز تأهيلهم، آمَنت بقُدراتهم واحترمت اختلافهم، ومن هنا جاءت فكرة مساعدتهم على تحقيق ذاتهم، إيماناً منها بأن الإنتاجية في المجتمع لا يعوقها أي اختلاف. فكان كافيه «أوزي»، الذي يتميّز بأن موظفيه من أصحاب الهمم.
إلى أستراليا توجهت جاكلين، القارة البعيدة جداً بالمسافة والقريبة كثيراً من العطاء على حد تعبيرها، نظمت هناك حفلات غداء وعشاء دعت إليها الجالية اللبنانية هناك، أنشطة أرادت أن يعود ريعها إلى إنشاء مطعم خاص يعمل فيه أصحاب الهمم. لبنانيو الاغتراب لم يخذلوها، وعادت جاكلين مُحمّلة بالدعم المادي، فكان اسم المكان «أوزي» تيمّناً بـ«أوزيلندا» أو القارة الأسترالية. ينتظر جوني بلهفة الزبائن في المطعم المتواضع والبسيط والمختلف باختلاف العاملين فيه. جوني ورفاقه التسعة ولدوا بـ«كروموزوم» إضافي، أحدث تغييرات واضحة على معالم وجوههم، ولكنه لم يؤثر في طيبتهم واندفاعهم الإيجابي. وهم اليوم بفضل مُبادرة جاكلين، يخوضون غمار العمل لأول مرة، وينتظرون بفارغ الصبر راتبهم الأول، وقد أجمعوا على رغبتهم في شراء الهدايا لأهاليهم الذين تعبوا عليهم كل هذه السنوات. وائل يُناهز العقد الثالث، لكنه لا يزال يحتفظ بوجه طفولي، يعبّر عن سعادته لاختلاطه بالناس، والتوجّه إلى الزبائن لسؤالهم «ماذا ترغبون؟». أما أكثر ما يُسعده فهو إنجاز هذه المهمة الموكلة إليه بنجاح. في «أوزي» يتعاون جوني ووائل وبديع مع أم سمعان، ويقسّمون المهام فيما بينهم. بعضهم يقدم الطلبات للزبائن، ومنهم من يتولى مهمة التنظيف، وآخرون يساعدون «أم سمعان» على تحضير الفول والحمّص والوجبات السريعة، فيتحول المطعم إلى خليّة نحل، خاصة أنه مع بدء موسم الصيف بدأ يستقطب الزوار والمصطافين في بلدة اهدن الجبليّة الجميلة في شمال لبنان، تشجيعاً لمبادرة «أم سمعان»، ولطاقات الشابات والشبّان المقبلين على العمل بكل شغف، فيستمتعون بلقائهم وبأجوائهم المرحة التي تعكس نقاوة قلوبهم.
تحرص جاكلين على كل هؤلاء الشباب وتعتبرهم أبناءها، فقسّمتهم إلى فريقين، واحد صباحي وآخر مسائي، على ألّا يتخطى دوام العمل لأي منهما الأربع ساعات، لكنهم يفضلون البقاء أكثر من ساعات الدوام. فهم يحبون عملهم، حيث يلتقون الناس ويتواصلون معهم. فبدا هذا المكان أشبه ما يكون بنافذتهم للقاء الآخرين، كما بدؤوا يعون أن اختلافهم ليس عيباً أو نقصاً. «أم سمعان» تعتبر المطعم خطوة أولى في طريق إنشاء مأوى لأصحاب الهمم، ممّن ليسوا لديهم عائلة ترعاهم. وتقول: «أهدي هذا المشروع إلى روح سمعان وأراهُ في أعين الأولاد».