في زاويته الجديدة «ماذا لو؟» استهل الصديق واسيني الأعرج مقالاً له في «زهرة الخليج» بقوله: «ثمّ ماذا لو تحدثنا قليلاً عن إيف سان لوران؟»، وهو ما أعادني إلى بداية السبعينات، يوم كنت على مدى أربع سنوات أعدّ وأقدّم برنامجاً شعرياً كل مساء على أمواج الإذاعة الوطنية الوحيدة آنذاك، وذات الانتشار الكبير، لعدم امتلاك جميع العائلات جهاز تلفزيون في تلك الأيام. كان البرنامج بعنوان «همسات»، وكان يبدأ بمقطع لإحدى قصائدي غدا لفرط سماعه شهيراً لدى الجزائريين. وازداد شهرة بعد أن قرأه العزيز مروان خوري بصوته في ديواني «عليك اللهفة».
«ثمّ... ماذا لو تحدّثنا قليلاً * مغلَقاً عمري كان * متعَباً وجهُك كان * والتقينا ذاتَ ليلة» أسعدني أن تلك الصيغة لا تزال عالقة بذاكرة واسيني، كما بذاكرة من يحدث أن أصادفهم من جيلي، كموظف في السفارة الجزائرية في بيروت، فاجأني بأنه لا يزال بعد أربعين سنة يذكرها، ويذكر كم سببت له تلك الوشوشات آنذاك من مشاكل مع زوجته، في بداية حياته الزوجية، فقد كان البرنامج يبث بعد نشرة أخبار الحادية عشرة ليلاً، مما يجعله حكراً على الساهرين، أو محبي أشعار الغزل باللغة العربية. وهو ما كان جديداً و«ثورياً» بالنسبة إلى مجتمع جزائري محافظ خارج لتوه من الحرب مصقولاً بقسوتها، وملتزماً بقاموس لغوي لا مجال فيه لإظهار المشاعر العاطفية، فقد كنا في زمن الكلّ فيه إخوة لتطابق أهدافنا، ولتقاسمنا قيماً اجتماعية مشتركة، إحداها اكتساب المرأة الجزائرية بحكم مشاركتها في الثورة رمزية وطنية لا يمكن المساس بقدسيتها، فقد جعلت منها الثورة «أخت الرجال» وأخت الجميع. حتى إن جريدة «لو كانار أنشينيه» الفرنسية الساخرة، نشرت وقتها كاريكاتوراً لحشد بشري ينادي كل واحد فيه على الآخر «يا أخي.. يا أختي» معلّقة: «إنها مأساة.. أصبح الزواج مستحيلاً في الجزائر فالجميع إخوة!». الأمر الذي أربك الكُتاب وانعكس على صورة المرأة في الأدب الجزائري آنذاك بتحويلها إلى رمز للوطن في أشعارهم ورواياتهم، أمر وقعت فيه أيضاً في أعمالي الأولى، كما في ثلاثية «ذاكرة الجسد». وهو ما دفعني في الثمانينات، إلى إعداد أطروحتي في السوربون في علم الاجتماع حول هذا الموضوع الذي شغلني كامرأة وككاتبة، كان قدرها أن تكون أول من يمشي على ذلك الحقل الملغوم بالشبهات، محركة المياه الآسنة للغة جميلة حُكم عليها بالتحنيط. من ذلك البرنامج الذي قدمته على مدى سنوات لم يبقَ لي أيّ تسجيل للذكرى، فقد محت الإذاعة كل التسجيلات لحاجتها وقتها إلى الأشرطة! ولم تنجُ من ذلك الزمن سوى عشرات الرسائل التي بعثها لي المستمعون آنذاك والتي احتفظت بها لجمالها في ملفات ورقية شفافة عدة حملتها معي 40 سنة من الجزائر إلى باريس ثم من باريس إلى بيروت. قبل أيام رحت أتصفح تلك الملفات الضخمة التي تشغل حيّزاً في مكتبي قصد تغيير مكانها. وإذا بي أقع على مفاجآت جميلة، رسائل مؤثرة في براءتها لكثير من كتاب جيلي كتبوا لي آنذاك لأذيع في البرنامج نصوصهم الأولى. بعضهم رحلوا وآخرون غدوا كتاباً كباراً. أحدهم بعث لي في 19 مارس 1973 من وهران بأسلوب فائق التهذيب «أختي أحلام. اسمحي لي أن أجدد لك شكري في أربع كلمات «عشتِ فتاة الثورة للجزائر» فأنا لست أدري ماذا أقول.. أول مرة في حياتي ألتقي بأديب.. أول مرة يشجعني أديب (ة) هو أنت». كانت الرسالة مرفقة بنصه الأول «دمعة مهاجر». أما المفاجأة الأجمل فرسالة في 23 فبراير 1975 من الطاهر جعوط أحد أقلامنا الفرنكوفونية الجميلة المتمردة. كان يود أن أترجم قصائده وأقدمها في البرنامج. وبرغم كونه شيوعياً فقد بدأها «عزيزتي أحلام لن أناديك رفيقة فأنا أكره هذه الكلمة» ولأنه لم ينادِ أحداً يوماً «أخي» فقد اغتاله الإخوة الإرهابيون!